إشكاليات اقتتال المسلمين بدوافع وطنية
الأصل
في الإسلام أن القتال يكون بين المسلمين وغيرهم، لا بين المسلمين بعضهم البعض؛ حيث
تحرم النصوص قتال المسلم للمسلم، فالنبي ﷺ جعل أكبر الوعيد على تقاتل المسلمين
فيما بينهم، ففي الحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في
النار) مسلم 2888.
وما
من حالة يجوز فيها قتال المسلمين بعضهم البعض إلا في حالة البغي، حيث يرفع فريق من
المسلمين السلاح ويبغون على جماعة أخرى من المسلمين، فإذا لم تنجح دعوات الإصلاح
فإن قتال البغاة يصبح واجباً حتى يرتدع الباغي عن بغيه ويعود إلى رشده، فإذا
استقرت الأمور فلا مبرر لاستمرار القتال، قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا
عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9].
ولكن
هذه الحالات تفترض أن هناك "دولة مسلمة" و"جيشاً مؤمناً" ولكن
الأمر في الحرب الأوكرانية الروسية مختلف تمام الاختلاف، فما ثمة جيش مسلم ولا
دولة مسلمة!
وحدث
مثل هذا الاقتتال بين المسلمين في حرب
الخليج الثانية التي اجتمع فيها عدد كبير من قوات الدول الإسلامية تحت إمرة
أمريكية وهو ما جعل كثيراً من المسلمين يتحرجون من مسألة الاستعانة بدولة غير
مسلمة وقوات غير مسلمة لتحل خلافاً بين المسلمين، وارتكزت الفتاوى الرسمية
السعودية حينها على فكرة رفع الظلم ومقاومة الباغي بما هو متاح وممكن، وهي الفتاوى
التي مهدت الطريق لوجود عسكري أمريكي مستقر في الجزيرة العربية لم ينتهِ حتى وقتنا
الحالي!
إن
تحديد الهدف من القتال يعتبر أهم ما ينبغي معرفته لتحديد مدى مشروعية القتال، فقد
يكون الانخراط في القتال واجباً إذا كان دفاعاً عن المقدسات والأرواح والأعراض،
ويكون إهداراً للأرواح إذا لم يكن له هدف مشروع وواضح ومحدد، والناظر في الحرب
الحالية لا يستطيع أن يجد مسوغاً شرعياً لموقف الرئيس الشيشاني وانخراطه في القتال
الذي لا يوجد فيه دفع لظلم ولا نصر لمسلم ولا أي مقصد شرعي معتبر!
إشكاليات
الدولة والمواطنة، مَن الصديق ومن العدو؟!
يعتبر
تحديد المعسكر الذي سيقاتل فيه المسلم أحد أكبر الإشكاليات المعاصرة، حيث ذوبت
الدولة الحديثة فكرة الأخوَّة في الدين واستبدلتها بالقومية والوطنية، حيث قد يجد
المسلم نفسه مقاتلاً في جيش غير مسلم ولكنه ينتمي إلى جنسيته!
وهنا
يقوم الفرد المسلم بتحقيق أهداف غير المسلمين، وهي أهداف لا يمكن بحال من الأحوال
أن تتوافق مع مقاصد الإسلام من القتال، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76]، ولقد نهى الله تعالى عن موالاة غير
المسلمين في مسائل القتال تحديدًا لحساسيتها: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا
أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ﴾ [الحشر: 11].
وهذه
الإشكالية ظهرت بجلاء عند غزو الولايات المتحدة للعراق 2003 حيث تضاربت الفتاوى
حول حكم خدمة المسلمين في الجيش الأمريكي، وهو ما كشف وجود فجوات كبيرة بين
التنظير والتطبيق في مجال السياسة الشرعية.
والحقيقة
أن موقف مسلمي أوكرانيا طبيعي ومتوافق مع مقاصد الشرع التي توجب الدفاع عن النفس
والعرض، فهم في موقع دفاع لحماية أنفسهم، ولكن الزج بمسلمي
الشيشان في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بل
ويقاتلون إلى جوار العدو الذي سحق بلادهم في حربين انتهت آخرهما عام 2009 يعتبر
أمراً عجيباً والأعجب أن يتم الزج بهم في هذه الحرب تحت راية دينية وشعارات
إسلامية وكأنهم منطلقون إلى تحرير المقدسات!
إن
حرباً مثل التي تدور حالياً بين روسيا وأوكرانيا تضع على عاتق العلماء المسلمين والباحثين
واجبات توضيح المساحة التي يمكن أن تتدخل فيها السياسة وتعمل عملها وبين المساحة
التي تعتبر من الخطوط الحمراء التي لا يمكن تعديها تحت أي ذريعة كانت، كما تضع هذه
الأحداث مسؤولية شخصية في عنق كل مسلم ألا يلقي بنفسه في صراع لا يعلم أبعاده ولا
تتضح له أهدافه ولا يستطيع أن يفرق فيه بوضوح بين الصديق والعدو، طالما أنه ليس
مضطراً لذلك.
جدل
كبير وتساؤلات عدة أثارتها الحرب الروسية-
الأوكرانية ولا سيما بعد إقحام الجيش الشيشاني
المسلم فيها، انقسمت الآراء حول ذلك بين طرف مؤيد مشجع وآخر معارض مخوّن، وفي
الحقيقة وراء تلك الآراء تختبئ الكثير من وجهات النظر المحقّة، لكن غالباً ما يتم
إظهار المشهد السياسي بدافع العاطفة.
فهناك من يؤيد تدخُّل الجيش الشيشاني؛
لأنه مسلم يغزو دولة غير مسلمة، متناسياً أنه يغزو باسم الدولة الروسية، بينما
يقوم الآخر بتخوين هذا الجيش ومحاسبته كما لو أنه مستقل يتخذ قراراته الدولية
بنفسه، متناسياً وقوعه تحت الحكم الروسي الغاشم، وموالاة رئيس الجمهورية للقيادة
الروسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق