المنشور الذي كتبه الأستاذ محمد لكود يحمل في طياته مزيجًا عميقًا من التأمل التاريخي، التحليل الواقعي، والربط بين التجارب الإسلامية المبكرة وأحداث العصر الحديث، مما يفتح المجال لمناقشة واسعة لا تقتصر على البعد التاريخي، بل تمتد إلى الجوانب السياسية، الاجتماعية، والفكرية.
قراءة النص في ضوء الفهم التاريخي والواقع المعاصر
النص يطرح إشكالية أساسية تتعلق بمدى صحة إسقاط المواقف النبوية، مثل موقف النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة حين قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، على سياقات تاريخية وسياسية مغايرة تمامًا. هل يمكن أن يتم عفو شامل في سياق ثورات الربيع العربي دون التمييز بين الأطراف المختلفة؟ النص يتساءل ويعترض على ذلك، مستشهدًا بمواقف لا تحتمل التسامح أو العفو، بسبب الفجوة الأخلاقية والإنسانية بين طلقاء مكة التاريخيين و"طلقاء" الأنظمة القمعية المعاصرة.
تحليل الخطاب التاريخي: هل كان العفو النبوي مطلقًا؟
الأستاذ محمد الكود يتناول بوضوح مسألة مهمة: هل العفو النبوي كان مطلقًا أم مشروطًا؟
النبي صلى الله عليه وسلم، رغم العفو العام الذي أعلنه في فتح مكة، إلا أنه أمر بقتل أشخاص بعينهم لجرائمهم التي تجاوزت الحدود الأخلاقية والإنسانية، كعبد الله بن خطل الذي أُهدر دمه رغم احتمائه بأستار الكعبة. هنا يبرز التساؤل: إذا كانت القيادة النبوية قد فرّقت بين العفو العام والمحاسبة للجرائم الكبرى، فكيف يمكن إسقاط هذا المبدأ على ثورات الربيع العربي التي واجهت أنظمة قمعية ارتكبت فظائع بحق الشعوب؟
فالعفو الذي مارسه النبي صلى الله عليه وسلم كان مدروسًا وهادفًا إلى إعادة بناء النسيج الاجتماعي والحفاظ على المصلحة العامة. أما في سياقنا الحديث، فإن العفو غير المشروط عن قادة الأنظمة القمعية كما حدث في بعض دول الربيع العربي أدى إلى نتائج عكسية، حيث استغل "الطلقاء" الجدد الحرية والموارد لشن ثورات مضادة.
"علمانية الدراويش": القراءة الأيديولوجية للموقف
النص يصف عفو الثورات العربية بأنه "علمانية الدراويش"، في إشارة إلى انفصالهم عن الواقع وعدم قدرتهم على قراءة العواقب السياسية. هذا المصطلح يحمل في طياته نقدًا لخطاب التسامح غير المشروط الذي قد يبدو مثاليًا ولكنه غير عملي في ظل الواقع السياسي المليء بالتعقيدات.
الدراويش، كما يوحي النص، هم أولئك الذين تغلبت عليهم عواطفهم دون أن يدركوا خطورة ترك قادة الأنظمة القمعية أحرارًا. هذا التوجه أدى إلى استغلال هؤلاء القادة للحرية الممنوحة لهم لإعادة ترتيب صفوفهم، واستخدام الموارد المنهوبة لشن هجمات مضادة ضد الثوار أنفسهم، كما حدث في ليبيا ومصر.
الربط بين الماضي والحاضر: درس من التاريخ
النص يستحضر أيضًا مثال النبلاء الفرنسيين الذين فروا أثناء الثورة الفرنسية وأعادوا تشكيل ثورة مضادة، في تشابه واضح مع قادة الأنظمة في سوريا ودول أخرى ممن استخدموا المنفى كقاعدة لإعادة النفوذ.
في السياق السوري، يشير النص إلى مجموعة من العوامل التي تدل على حتمية اشتعال الثورة المضادة، بدءًا من "علمانية الدراويش"، مرورًا بالتدخلات الخارجية (كالكيان الصهيوني)، ووصولًا إلى دور الأموال المنهوبة والقادة الطائفيين.
نقد القرارات الثورية: العفو مقابل المحاسبة
النص يقدم نقدًا واضحًا للقرارات التي اتخذتها الثورات، خاصة فيما يتعلق بالعفو غير المشروط. يرى الكاتب أن الثورة الحقيقية يجب أن تتبع نموذجًا أكثر صرامة، مستشهدًا بتجربة اجتثاث البعث في العراق، التي تضمنت محاكمات عادلة وحل الأجهزة الأمنية القمعية.
إن الإبقاء على قادة الأنظمة القمعية دون محاسبة يمنحهم فرصة لاستعادة نفوذهم، كما حدث في ليبيا حين أطلق الثوار سراح شخصيات بارزة مثل سيف القذافي ومحمود الورفلي، مما أدى لاحقًا إلى عمليات انتقامية وإعدامات ميدانية.
التوازن بين العدالة والانتقام
النص يميز بوضوح بين العدالة والانتقام. العدالة، كما يراها الكاتب، تتطلب محاسبة المجرمين وإبعادهم عن أي دور مستقبلي في النظام السياسي. أما الانتقام الأعمى، فهو يؤدي إلى حلقة مفرغة من العنف والثأر.
دروس من التجربة
أهمية المحاسبة الشاملة: العفو العام قد يبدو حلاً جذابًا على المدى القصير، لكنه يؤدي إلى عواقب وخيمة إذا لم يكن مشروطًا بمحاسبة عادلة.
فهم الطبيعة البشرية والسياسية: الافتراض بأن القادة القمعيين سيتحولون إلى مؤيدين للثورة بمجرد منحهم العفو هو خطأ استراتيجي كبير.
الدروس من التاريخ: الثورة المضادة ليست ظاهرة جديدة، ويمكن التنبؤ بها من خلال دراسة التاريخ، سواء الثورة الفرنسية أو غيرها.
خاتمة
المنشور يقدم قراءة واعية وعميقة للواقع الثوري في العالم العربي، ويبرز أهمية التعامل مع القضايا المصيرية بميزان الحكمة والواقعية، بعيدًا عن العواطف المجردة. إن استلهام التجارب النبوية يجب أن يكون استلهامًا واعيًا يأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والمعاصر، مع التركيز على تحقيق العدالة الشاملة التي تعيد بناء المجتمعات بدلاً من تمكين قوى الثورة المضادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق