الاثنين، 5 أغسطس 2024

القدس عند المسلمين ارض وشرف ودين

 

القدس عند المسلمين ارض وشرف ودين

يتمتع  بيت المقدس بمكانة  كبيرة في الأديان السماوية، وللقدس مكانة خاصة عند الإسلام والمسلمين، من خلال المكانة التي احتلاها في العقيدة الإسلامية، وفي التاريخ الإسلامي، فالقدس والمسجد الأقصى يسكنان قلوب المسلمين جميعاً.

إن مكة والبيت الحرام  مقدستين عند نبي الله  إبراهيم وأبنه  إسماعيل عليهما السلام ، وامتد تقديسهما وتكريمهما عند أمة الإسلام، و كذلك بيت المقدس والمسجد الأقصى. ما الحكمة الربّانية من الإسراء إلى القدس، وكان المعراج منها؟ ولماذا لم يكن المعراج من مكة المكرمة ؟ . ماذا حظيت القدس بالقبلة الأولى للمسلمين قبل الكعبة المشرفة ؟ لماذا كان اهتمام المسلمين بتحرير القدس دون إراقة دماء؟

أجوبة كثيرة  جميعها كانت تتمحور حول :

1- إسلامية هذه الديار، حيث فتحت روحياً وإيمانياً بمعجزة الإسراء والمعراج.

2- ربط القدس بمكة المكرمة رباطا عقديا وتعبديا.

القدس في القران الكريم

وقد وصف القرآن الكريم أرض بيت المقدس، بصفات عدة منها البركة، والطهر، والقدسية، في كثير من المواضع:

( يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (سورة المائدة: الآية 21).

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (سورة الأعراف: الآية 137).

﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [ الإسراء: 1]

( وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (سورة الأنبياء: الآية 71).

 وفي قوله تعالى عن عيسى وأمه عليهما السلام ( وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) (سورة المؤمنون: الآية 50).

وفي قوله تعالى ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) (سورة ق: الآية 41)، ورد في تفسيرها أن المنادي هو إسرافيل، ينادي من صخرة بيت المقدس.

وجاء فيها قوله تعالى لبني إسرائيل: ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) (سورة الإسراء: الآية 8)، أي: إن عدتم للإفساد، عدنا عليكم بالعقوبة. ففي حادثة الإسراء إلغاء أبدي، لصفحة (بني إسرائيل) من سجل التفضيل والاصطفاء.

قال عز وجل "وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ". سورة الأنبياء الآية 71.

والضمير الغائب في لفظ (ونجيناه) يعود إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، والمراد بالأرض: هي أرض فلسطين، وكانت موضع هجرة إبراهيم ولوط عليهما السلام بعد أن منّ الله عليهما بالنجاة من الأقوام الظالمة.

القدس في السنة النبوية  الشريفة:

بالإسراء يتمثّل الرباط العقدي ، القدس القبلة الأولى تمثل الرباط التعبدي ، وشد الرحال اليها بقصد التعبّد  يدل على أهميتها الدينية ومشاركتها للمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.

- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال: " لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثة مَساجِد: المَسجِد الحَرام، ومَسجِد الرَّسولِ ﷺ، ومَسجِد الأقصَى).   رواه البخاري

- لا يَنبَغي لِلمَطيِّ أنْ تُشَدَّ رِحالُه إلى مَسجِدٍ يُبتَغى فيه الصَّلاةُ، غَيرَ المَسجِدِ الحَرامِ، والمَسجِدِ الأقْصى، ومَسجِدي هذا.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا متفق عليه

وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أبو سَعيدٍ الخُدْريُّ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ: "إنَّما تُشَدُّ الرِّحالُ إلى ثَلاثةِ مَساجِدَ"، وهو السَّفرُ إليها بنِيَّةٍ وقصْدٍ دونَ غيرِها مِن المساجِدِ، "مَسجِدِ إبراهيمَ"، وهو المَسجِدُ الحَرامُ بمكَّةَ (الكَعْبةُ)، فتُشَدُّ الرِّحالُ إليه بالحَجِّ والعُمْرةِ والزِّيارةِ، "ومَسجِدِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" الَّذي بالمدينةِ، فتُشَدُّ الرِّحالُ إليه بالزِّيارةِ والصَّلاةِ فيه، "وبَيتِ المَقدِسِ"، وهو المَسجِدُ الأقْصى؛ فتُشَدُّ الرِّحالُ إليه بالزِّيارةِ والصَّلاةِ فيه، وقد خُصِّصَتْ هذه المساجِدُ لِمَا لها من الفَضلِ عِندَ اللهِ، ولِمَا للصَّلاةِ فيها من أجْرٍ مُضاعَفٍ.

فقد صلّى رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم  في ساحة المسجد الأقصى المبارك، إماما بالأنبياء، وهو دليل على أنه خاتمهم وقائدهم، وإن رسالته شاملة لجميع الرسالات، وكذلك فُرضت الصلاة على المسلمين في سماء القدس حين المعراج، والمعلوم أن الصلاة هي ركن من أركان الإسلام، بل هي عمود الدين وعماده.

ونظراً لأهمية الصلاة فإن الله عز وجل خاطب نبيه مباشرة وبلّغه فرضيتها، وأن فريضة الصلاة في سماء القدس، أثناء المعراج، تكريم لهذه المدينة التي حباها الله بالبركات وبالقداسة.

 

أهمية ارض القدس ومكانتها في الشريعة الإسلامية ومكانة أهلها :

كان المسجد الأقصى هو المكان الذي صعد منه. وكان حَدَثُ المعراج شرفاً آثر الله به النبي العظيم، ليرقى إلى ملأ عظيم، في ليلة عظيمة.

عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه  قَالَ :  سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ r أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ: قَالَ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأقْصَى. قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً . (مسند أحمد، الحديث الرقم 20370).

وروت الصحابية الجليلة ميمونة بنت سعد رضي الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس. قال: "أرض المحشر والمنشر، إئتوه فصلّوا فيه، فإن صلاةً فيه كألف صلاة في غيره." قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمّل إليه؟ قال: فتهدي له زيتاً يسرج في قناديله، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه".  رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد والبيهقي بإسناد صحيح. وهذا الحديث النبوي الشريف صريح بارتباط مدينة القدس بالعقيدة الإسلامية، لأن المحشر والمنشر جزء من يوم القيامة. ومعنى "أتحمل إليه" أتمكن من الوصول إليه، "فتهدي له زيتا " كناية عن إعماره والتبرع له. وفي لفظ "يسرج فيه" بدلاً من لفظ " يسرج في قناديله".

وروى الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله نحو بيت المقدس 16 شهراً ثم حرفنا نحو الكعبة". أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وهذا الحديث النبوي الشريف صريح بأن المسجد الأقصى هو أولى القبلتين.

عن الصحابي الجليل ذي الأصابع رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسول الله، إن ابتلينا بعدك بالبقاء أين تأمرنا؟ قال: عليك ببيت المقدس فلعلّه أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون". أخرجه أحمد والطبراني. وهذا الحديث الشريف يتضمن حثاً على المرابطة والإقامة في بيت المقدس.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمئة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمئة صلاة". رواه الطبراني في الكبير والبزار في مسنده. إسناده حسن عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. وهذا حثّ على الصلاة في المساجد الثلاثة بالإضافة إلى زيادة في الثواب.

 

 

 

 

 

القدس في التاريخ

فبعد أن قامت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وبعد أن تم فتح مكة، اتجهت أنظار النبي محمد صلى الله عليه وسلم صوب بيت المقدس في الشام، ليُطَهِّرُه من الرومان وتحرير الأرض المقدسة.

عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

في العام الثامن للهجرة، بعد أن قتلَ حاكمُ بصرى من قبل الروم مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم. امر الرسول بالتجهز لغزو الروم،  فاجتمع من المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل قد تهيئوا للخروج إلى مُؤْتَةَ،  وفي هذه الغزوة قُتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، ثم عبدالله بن رواحة، ثم التقف الراية سيف الله المسلول، خالد بن الوليد، الذي فتح الله عليه بأن ينسحب ببقية الجيش انسحاباً آمناً، وقد حمد له النبي الكريم ، هذا الصنيع.

في السنة التاسعة بدأت الروم تحشد الجيوش للإغارة على دولة الإسلام، لتضمن البقاء على أرض بيت المقدس، فاستنفر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه لملاقاة العدو، بالرغم من  صعوبة الموقف وقد سُمِّيَ الجيش الذي أُنْشِئ لقتال الروم (جَيْشَ العُسْرة)، وذلك لِما اكتنف إعداده من الظروف العصيبة.

وَلَمَّا بلغ جيش المسلمين تبوك، لم يجد للرومان أثراً يدل على استعداد لحرب، ويبدو أنهم آثروا الاختفاء عن ملاقاة جيش المسلمين. وجاء ختام الغزوة طمأنينة وعزة للمسلمين، فأقفل الرسول صلى الله عليه وسلم عائدا بالجيش إلى المدينة، بعد أن أزال رهبة نزال الروم من قلوب المسلمين، وكسر حاجز الخوف من لقائهم.

وبعد عودته صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو معاقل الروم في أراضي الشام، واختار لإمرة الجيش أسامة بن زيد. وَتَجَهَّزَ الجيشُ، وخرج بقيادة أسامة، إلى ظاهر المدينة، فعسكر بالجرف، وفي هذه الأثناء، اشتدت برسول الله صلى الله عليه وسلم  شكواه' التي قبضه الله تعالى فيها، فأقام الجيش ينتظر ما الله قاضٍ في هذا الأمر.

2. في عهد أبي بكر الصديق رضى الله عنه

وجه جيش أسامة الذي أعده الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، إلى تخوم البلقاء، فسار إلى حيث وجهه أبو بكر. ولم يكد عهد أبي بكر رضى الله عنه يستقر حتى تداعت فتنة العرب المرتدين، تتكالب على الإسلام.

وبعد أن تحقق النصر الحاسم على المرتدين، تم توجيه جيشٍ إسلامي كبير إلى الشام، وإلى العراق، فوجه أبا عبيدة حِمْص، وولاه إمرة الجيوش، كما أرسل يزيد بن أبي سفيان إلى دمشق، وعمرو بن العاص إلى فلسطين، وشرحبيل بن حسنة لوادي الأردن. وكان عدد هذه الجيوش يقارب الاثني عشر ألفا. ثم أسند أبو بكر، القيادة العامة لجيش الشام، إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد، بعد انتهائه من قتال الفرس في العراق. والتقت الجيوش. وتمخضت ملاحم النصر، عن فتح عدة مدن في فلسطين، منها: نابلس، وعسقلان، وغزة، والرملة، وعكا، واللد، وفتح عمرو بن العاص مدناً أخرى منها يافا ورفح.

وأقلقت هذه الانتصارات الدولة البيزنطية، فحشدت جيوشاً جرارة أخرى، لمواجهة المسلمين، وتجمع الجيش الروماني في اليرموك ، إلا أن الله عز وجل نصر جنده، وفتح للمسلمين فتحاً مبيناً، وسيطروا على المنطقة الوسطى من سورية، التي تحمي ظهورهم بالبادية. وبهذا مهدت الجيوش الإسلامية في خلافة أبي بكر الصديق للزحف نحو بيت المقدس.

3. في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه

وجه عمر بن الخطاب رضى الله عنه أبا عبيدة بن الجراح، لفتح المدينة المقدسة، فوجه خالد بن الوليد نحو بيت المقدس، ثم أتبعه جيش بقيادة يزيد بن أبي سفيان، واخر بقيادة شرحبيل بن حسنة. واجتمعت الجيوش كلها، وضربوا الحصار حول المدينة المقدسة لمدة أربعة أشهر، في أيام برد شديد. فطلب أهل "إيلياء" الصلح مع أبي عبيدة، على أن يتولى الخليفة عمر بنفسه تسلّم المدينة، ليضمنوا العهد والأمان منه. فجاءها عمر رضى الله عنه وتسلم مفاتيحها .

وبعد أن تسلم الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه بيت المقدس، كَشَفَ عن مكان الصخرة المباركة التي طُمرت تحت الأتربة والنفايات. وتسابق المسلمون في مشاركته ذلك العمل حتى تم تنظيف المكان المبارك، وظهرت الصخرة. وبنى عمر رضى الله عنه ، المسجد المعروف (بمسجد عمر) وأصبحت الصخرة في آخره.

4. في العصر الأموي

ظل المسجد الذي بناه الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه قائماً في عصور الخلفاء الراشدين التالية لعهده، وتولى الخليفة عبدالملك بن مروان وابنه الوليد أمر إعمار المدينة المقدسة وتجديدها، حتى أصبحت في عهدهما، من أعظم المراكز في الدولة الإسلامية، فقد أعادا بناء الأسوار المحيطة بالمدينة، وأقاما الأبنية والقصور بجوار الزاوية الجنوبية لسور المسجد، ليسكنها أمراء القدس في العهود الأموية، ثم العباسية، ثم الفاطمية فيما بعد.

وتولى الخليفة عبدالملك، تشييد مسجد قبة الصخرة، والمسجد الأقصى.

ولما تولى الخليفة الأموي، العادل، عمر بن عبدالعزيز، طلب من جميع ولاته أن يزوروا المسجد الأقصى ويقسموا يمين الطاعة والعدل بين الناس فيه.

5. في العصر العباسيّ عهد أبي جعفر المنصور،  أمر بتعميره وإصلاحه وإعادته إلى الصورة التي تليق بمكانته في قلوب المسلمين، بعد تعرضه لزلزال في عام 158 هـ / 774 م، فبُني أوثق وأمتن مما كان عليه، كما قام الخليفة المهدي بإصلاحات في المسجد عام 158هـ فزاد في طوله.

6. في العصر الفاطمي تم تجديد قبة الصخرة عام 413 هـ من آثار التعرية الجوية، وتوالت التجديدات في عهدهم لتشمل الحرم القدسي بكامله.

7. سقوط القدس في يد الاحتلال الصليبي

أصيبت الدولة العباسية بالضعف والتمزق، وانتهزت أوروبا الفرصة، فجهزت الحملات الصليبية التي اتخذت مظهراً دينيّاً للاستيلاء على بيت المقدس. ونجحت في إقامة مملكة القدس عام 1099م، واستُبيحت الأعراض والممتلكات، ولم يراعوا حرمة المسجد الأقصى وقدسيته، فَحَوَّلُوا الصخرة المباركة إلى مذبح، ووضعوا التماثيل فوقها. كما شوهوا معالم المسجد الأقصى المبارك، فَبَنَوْا على محرابه جداراً لإخفاء معالمه، واتخذوا من المسجد ثكنات لجنودهم، وذبحوا الكثير من المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً.

8. القدس في عصر المماليك

استمر المماليك في الحكم قرابة ثلاثة قرون، أَمْضَوْا جانباً منها في القضاء على ما تبقى من الصليبيين. فاستسلمت في عهدهم باقي الإمارات الصليبية عام 690 هـ/1291م.

9. القدس في العصر الأيوبي

ظل الصليبيون يعيثون فساداً في مدينة القدس قرابة التسعين عاماً، إلى أن أَذِنَ الله بالنصر، للسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. فطهر القدس من الصليبيين، وعمل على إزالة التشوهات التي لحقت بالآثار الإسلامية. فطهر قبة الصخرة من التماثيل والهياكل، التي وضعت فوقها، وأزال الجدار الذي وضعه الصليبيون على محراب المسجد الأقصى، وأمر بتجديده، ونقل إلى المسجد الأقصى من حلب، المنبر الذي أعده نور الدين زنكي لهذا اليوم. وقد ملأ المسجد والحرم القدسي الشريف بنسخ من القرآن الكريم، كما شيد عدداً من المدارس الإسلامية.

10. القدس في عصر الأتراك العثمانيين

أولى الأتراك العثمانيون المسجد الأقصى عنايتهم، فأقاموا عدداً من العمارات الإسلامية، وتمت توسعة المسجد، ليصل إلى 80 متراً طولا و 55 متراً عرضاً، وأضيف عدد من الأعمدة الرخامية، ليصل عددها إلى 53 عموداً رخامياً و49 سارية. وشملت التجديدات، والتحسينات، قبة الصخرة، التي زُيِّنَتْ بالآيات القرآنية، أما الصخرة المشرّفة فقد أقيم حولها سياج، من الخشب، على شكل مربع بلغ طوله ثمانية عشر متراً، وعرضه ثلاثة عشر متراً. وامتدت الإصلاحات والتجديدات لتشمل الحرم القدسي كله.

 

 

الاحتلال البريطاني والصهيوني

في عام 1917 احتلت القوات البريطانية القادمة من مصر القسم الجنوبي من فلسطين من الدولة العثمانية، وفرضت عليها حكماً عسكرياً، دخل قائد القوات البريطانية الجنرال إدموند ألنبي مدينة القدس من باب يافا. أثار ذلك مشاعر الابتهاج في أوروبا وأمريكا إذ وقعت القدس لأول مرةٍ تحت سيطرة الأوروبيين بعد تحريرها من الصليبيين على يد صلاح الدين الأيوبي. كانت بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية قد اتفقت على تقسيم بلاد الشام بينها في اتفاقية سايكس-بيكو السرية 1916 بين الأطراف الثلاثة. جرى الاتفاق على أن تكون منطقة فلسطين منطقةً دوليةً مراعاةً لروسيا، ولكن بعد انتهاء الحرب عَدَلَتْ بريطانيا عن هذا البند من الاتفاقية فقد أرادت إنشاء معبرٍ أرضيٍّ متصلٍ بين الخليج العربي وميناء حيفا، فضلاً عن هدفها تأسيسَ دولةٍ صهيونيةٍ في فلسطين.

في 1920 اجتمع مندوبو الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى في مدينة سان ريمو الإيطالية  (مؤتمر سان ريمو) لتعديل اتفاقية سايكس-بيكو وتقرير الشكل النهائي لتقسيم الأراضي التي احْتُلت من الدولة العثمانية. في هذا المؤتمر اتفق الطرفان على منح فلسطين لبريطانيا.

أصرّت الحكومة البريطانية على عصبة الأمم على إدراج تصريح بلفور في صك الانتداب على فلسطين لتصبحَ السياسةُ البريطانيةُ في فلسطين الداعمةُ للهجرةِ اليهوديةِ تحت غطاءٍ دولي، وعيّنت أول مندوبٍ سامٍ لها هربرت صموئيل الوزير البريطاني السابق واليهودي .

الحرب العالمية الثانية

ابتداءًا من عام 1939، ترأس الموساد منظمة تُشرف على الهجرة السرية لليهود بعد الحرب، تم ترحيل غالبية اليهود في أوروبا الى فلسطين وبدات الحركة الصهيونية بالاستيلاء على ارض الفلسطينين عن طريق المذابح والمجازر وسرقة الممتلكات العربية .

مثلما هو الحال في أغلب أنحاء العالم العربي، لم يكن ثمّة إجماع بين العرب الفلسطينيين على موقفهم من المتحاربين في الحرب العالمية الثانية. فقد رأى عدد من الزعماء والشخصيات العامة أن انتصار المحور هو الطريقة السريعة لعودة فلسطين من الصهاينة والبريطانيين. على الرغم من أن العرب لم يحظو بتقدير كبير من قبل النازية ، إلا أن النازيون قد شجعوا الدعم العربي باعتباره معاكسًا للهيمنة البريطانية.

عام 1944 تم تشكيل مجموعة اللواء اليهودي في الجيش البريطاني ، حيث لعبت دورًا رئيسيًا في مساعدة اليهود على الهجرة من أوروبا إلى فلسطين، وأصبح قدماء اللواء اليهودي مشاركين رئيسيين في الجيش الإسرائيلي.

في أعقاب تقسيم فلسطين اندلعت المقاومة الفلسطينية المسلحة على نطاق واسع وجابهتها بريطانيا بعنف شديد وقامت بدعم المناطق اليهودية لأسباب دينية. نظمت فرق ليلية بريطانية خاصة مؤلفة من جنود بريطانيين ومتطوعين صهاينة غارات على قرى عربية في الجليل الأدنى وفي مرج بن عامر.

بعد نهاية الحرب عام 1948 تقسمت منطقة الانتداب بين إسرائيل والأردن ومصر حيث منحت إسرائيل الجنسية الإسرائيلية لليهود ورفضت عودة النازحين الفلسطينيين من خارج هذه الحدود. أما الأردن فمنحت جنسيتها لسكان الضفة الغربية بما في ذلك اللاجئين إليها. أما سكان قطاع غزة واللاجئين إليها فبقوا دون مواطنة إذ رفضت مصر منحهم الجنسية المصرية.

وبذلك سيطرت الحركة الصهيونية على الأراضي الفلسطينية وبما فيها القدس الشريف ، وبالرغم من العنف والقتل والتشريد والحصار المطبق على اهل فلسطين ما زالوا يقامون المحتل وهدفهم الوحيد تحرير فلسطين والقدس والمسجد الأقصى الشريف .

الخاتمة:

فقد قال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت بخط أبي، ثم روى بسنده إلى أبي أمامة قال:

 قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط بإسناد. قال الهيثمي في المجمع ورجاله ثقات. والله أعلم.

وهذه بشارة من الرسول محمد عليه السلام للأمة الإسلامية بأنّ الفئة المنصورة هي التي ترابط في بيت المقدس.

هلاّ تنبّه المسلمون في هذه الأيام لهذه المدينة المباركة المقدسة؟! وهلاّ أعطوها العناية اللائقة بها؟! وهلاّ تذكّروها وهي في الأسر؟! وهي تحت وطأة الاحتلال؟! أم هم عنها لاهون غافلون؟!

مدينة القدس أمانة في اعناق جميع المسلمين لأنها الأرض المقدسة وارض المحضر ، ويجب أن يتنبّه المسلمون في هذه الأيام لهذه المدينة المباركة المقدسة وأن يعطوها العناية اللائقة بها، وأن نعمل على تحريرها من  الاحتلال وبأسرع وقت .

على العالم الإسلامي أن يتحمل المسؤولية تجاهها. ولو قصر العرب في العمل على تحريرها ولا يركن المسلمين  للحكام العرب فأن لهم مصالح وسياسات لا تتناسب مع أهمية تحرير الأقصى .

                                              خاص لحراس الأقصى                        محمد اللكود

المصادر: القران الكريم – السنة النبوية – مقالات متنوعة من الشابكة –  المنهاج السوري

الأحد، 4 أغسطس 2024

القدس تحت الحماية الدولية

القدس تحت الحماية الدولية 



معارف مقدسية / القدس عبر التاريخ

محمد اللكود

باحث تربوي / دراسات سياسية

القدس تحت الحماية الدولية

تحاول أجهزة الاعلام والثقافة الصهيونية ترويج أن القدس مدينة يهودية وكل ما فيها يعود الى المجتمع اليهودي من ثقافة وعمران وحضارة ، وتحاول أن تطمس التاريخ العربي للمنطقة وكذلك المحاولات الدولية للسيطرة على القدس وجعلها مدينة دولية بسبب مكانتها المقدسة عند كل الأديان وبسبب البعد الجيوسياسي لفلسطين، فكان الصراع بين الدول للسيطرة على القدس تارة وتارة أخرى قيام تحالف لوضعها تحت حماية دولية .

فمن واجباتنا كحراس الأقصى أن نوضح كثيرا من القضايا التاريخية حول مدينة القدس والمسجد الأقصى من خلال مجلة حراس 144 ونتعرف مدى التآمر الدولي على مقدساتنا، وفضح الاعلام الصهيوني الكاذب.

 والسؤال المهم الذي شغلنا هو لماذا وضعت القدس تحت الحماية الدولية ؟

وتتمتع مدينة القدس بأهمية دينية بالغة بالنسبة لملايين المؤمنين من أتباع الديانات التوحيدية الثلاث في مختلف أرجاء العالم، والقدس من أقدم المدن في العالم وقد ظلت طوال تاريخها ملتقى الحضارات والمدنيات ووجهة للحجاج والفاتحين ومنذ العهود الغابرة خاضت شعوب وجماعة أنت مختلفة معارك لا تحصى للسيطرة عليها، وهؤلاء خلفوا مدينة ذات عمق ونسيج ثقافي وديني فريدين.

 في هذه المقالة نحاول أن نوضح تاريخ القدس القديم ونبين الاطماع الدولية بالسيطرة عليها قبل الحركة الصهيونية ومع استمرار هذه الحركة وتخاذل العرب في الحفاظ عليها.

مراحل مرت بها مدينة القدس:

أنشأ العرب القدس قبل خمسة آلاف سنة، حيث اختارها اليبوسيون في 3000 ق.م عاصمتهم؛ ومن بقايا مدينة القدس اليبوسية عين سلوان أو عين الدرج، وهم الذين استقبلوا  نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما جاء إلى فلسطين ، وظل العرب يشكلون الأكثرية طوال عهود التاريخ، حتى زمن الاحتلال (العبري) لفلسطين منذ القرن الحادي عشر ق.م.  وقد تعلم الغزاة العبريون فنون الزراعة من العرب (سكان البلاد الأصليين). وورد في ألواح مصرية 1879 ق.م  ان اسمها  (أورسالم) أي (مدينة السلام)، وعاد الاسم وتكرر عام 1300ق.م في ألواح (تل العمارنة) حيث كان اليبوسيون العرب يسكنونها في ذلك الحين.

 في فترة الحكم الروماني: 63ق.م - 636م جرت احداث كثيرة من أهمها :

 ظهور المسيح عليه السلام، وتدمير القائد الروماني تيطس للقدس في عام 70م، وكذلك دمرها القائد الروماني (هدريان) وأنشأ مكانها مدينة (إيليا كابيتولينا) في عام 139م.

في عام 335م أنشئت كنيسة القيامة، وعام 395م تبعت القدس للإمبراطورية البيزنطية، واحتلها الفرس. 614م حتى 629م، وفي فترة 629-636م: أعادها الرومان إلى حكمهم.

في عام 636م  أعاد العرب المسلمون تحرير القدس وفتحوها سلماً؛ حيث دخل الخليفة عمر بن الخطاب المدينة وكتب لأهلها العهدة العمرية المشهورة، وخضعت القدس لسيطرة العباسيين، فالطولونيين، فالاخشيديين، فالفاطميين الذين اهتموا بالقدس، وقاموا بتعمير المسجد الأقصى وقبة الصخرة وغيرهما من أبنية المدينة؛ بعد ما أصابها من الدمار نتيجة الزلازل.

احتل الصليبيون القدس عام 1099م وارتكبوا مذبحة رهيبة قتلوا فيها معظم سكانها، ثم حولوا مسجد قبة الصخرة إلى "كنيسة السيد المسيح"؛ أما المسجد الأقصى فحولوا جزءاً منه إلى كنيسة، والجزء الآخر إلى مسكن لفرسان "الداوية"، وبنوا فيه مستودعاً للأسلحة، واستخدموا السراديب التي تحته كإسطبلات خيول؛ وهي المعروفة باسم "الأقصى القديم، والمصلى المرواني"، واستمر الاحتلال الصليبي للمدينة 88 سنة.

حرر صلاح الدين الأيوبي عام 1187م المدينة من الصليبيين، وتولى المماليك الحكم 1250م واهتموا بالقدس، وأنشأوا فيها العديد من الزوايا والربط والتكايا والمدارس والمساجد والسبل، حتى عام 1516م حيث أصبحت تحت سيطرة الأتراك العثمانيون، الذين توصلوا مع الدول الغربية لوضع  لما يعرف باسم "اتفاق الوضع الراهن" فيما يخص الأماكن الدينية المقدسة في القدس.

مع بدايات الحرب العالمية الأولى صدر وعد بلفور المشؤوم والاحتلال البريطاني للمدينة1917، وتبعه عام 1947م صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وإنشاء كيان خاص بالقدس بشكل مستقل.

 

الصراع الدولي وأحلام عودة الصليبين ومنطق "أرض الميعاد" للصهاينة :

تتعلق فكرة الصراع بين الدول الأوروبية بالتراث الديني البروتستانتي تحديدا، وتاريخ العلاقات الإسلامية بالغرب في زمن الحروب الصليبية، حيث تجمعت المصالح الدينية والسياسية والثقافية والإستراتيجية معا لإنشاء إسرائيل ودعمها من قِبَل البريطانيين ثم الأميركيين فيما بعد.

وكان لقانون الامتيازات أو قانون المِلَل الذي سمح بمقتضاه السلطان سليمان القانوني للفرنسيين برعاية وحماية الكاثوليك في أراضي الدولة العثمانية دوراً في التدخل الدولي في القدس حيث سُمح للروس بحماية الأرثوذكس القاطنين أيضا في أراضي الدولة العثمانية، ولذا وجد البريطانيون ضالّتهم في رعاية اليهود القاطنين في أراضي الدولة العثمانية بوصفها إحدى أهم أدوات التوسع الاستعماري في الأقطار العربية .

اما روسيا اعتنت بموضوع الدين واتخذت من الدفاع عن الأرثوذكس شماعة لحماية الأقليات وبابا للنفوذ إلى قلب منطقة الشرق الأوسط، لتجد لها موطئ قدم في أراض كانت فيها قبلها فرنسا وإنجلترا والنمسا وبروسيا، فهتمت  بالدفاع عن الأرثوذكس في مواجهة المذاهب الأخرى مثل الكاثوليكية والبروتستانتية، لأنها جزء لا يتجزأ من السياق القومي الروسي، وكونها خط الدفاع الروحي الأهم عن الهوية الروسية.

تنبهت روسيا إلى أن في الامبراطورية العثمانية طائفة أرثوذكسة، وأرادت أن تسيطر على البطاركة والأساقفة الأرثوذكس، وتتخذهم وسيلة لتحقيق أطماعها السياسية، فأخذوا يشترون الأراضي في فلسطين، ويقيمون عليها الأبنية ويتدخلون في الأمور الدينية والسياسية، وبدأ التدخل الروسي بطلبهم من السلطان العثماني عبد المجيد الأول تنحية الرهبان الكاثوليك من القدس، وأن يكون الرهبان الأرثوذكس هم أصحاب الكلمة العليا في الأماكن المقدسة، فوقعت الدولة العثمانية مع روسيا اتفاقية سمحت للروس بالحصول على امتيازات ضمن البلاد العثمانية، تشمل حماية الأرثوذكس في أي مكان في الدولة.

القدس في فترة الحرب العالمية الأولى:

بدأت المشكلة الفلسطينية كقضية دولية مع قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، فقد أدت احداث الحرب إلى اتخاذ عصبة الأمم قرارا بوضع فلسطين تحد إدارة بريطانيا العظمى كدولة منتدبة، ولم يأخذ هذا القرار في الاعتبار رغبات الشعب الفلسطيني، رغم اشتراط العهد ’’أن يكون لرغبات هذه الأقوام اعتبار رئيسي في اختيار الدولة المنتدبة‘‘.

ونجد من بنود الاتفاقية البريطانية الفرنسية الروسية عام 1916 حول فلسطين كما جاء في المادة الثالثة ((تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين)، يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة)). والمادة العاشرة: ((تتفق الحكومتان الإنگليزية والفرنسية، بصفتهما حاميتين للدولة العربية، على أن لا تمتلكا ولا تسمحا لدولة ثالثة أن تمتلك أقطاراً في شبه جزيرة العرب، أو تنشئ قاعدة بحرية على ساحل البحر المتوسط الشرقي)).

ففي 11 كانون الأول/ديسمبر 1917، استطاع اللنبي انتزاع القدس من الأتراك العثمانيين وحليفهم الألماني .

ودخل من بوابة يافا في القدس سيراً على الأقدام، دون أي أعلامٍ أو موسيقى رنانة مخالفاً لما فعل القيصر فيلهلم الثاني الألماني عندما زار القدس عام 1898، دخل على جواد أبيض وسط لافتات مرفرفة، وانتشر كلام يقول إنه 'لو كان رجلاً أفضل لدخلها مشياً [على الأقدام]'. حتى يعطي حسن نية بريطانيا تجاه العرب، وعند مدخل القلعة ("برج داود")، قرأ  اللنبي إعلاناً مفاده أنه سيتمّ وضع المدينة تحت الأحكام العرفية، وسيبقى الوضع القائم فيما يتعلق بالأماكن المقدسة على ما هو عليه.

عندما سقطت القدس، كانت اتفاقية سايكس- بيكو السرية المبرمة في أيار/مايو 1916 لا تزال نافذة بتقسيم الإمبراطورية العثمانية، من قبل القوى المتحالفة الرئيسية: بريطانيا وفرنسا وروسيا.

وبما أن بريطانيا وفرنسا أعربتا كلتيهما عن رغبتهما بالسيطرة على فلسطين، وأرادتا منع وقوع أي تصادم قبل غزوها، فقد قررتا تقاسمها، وتخضع القدس ويافا والمنطقة الممتدة بينهما "لإدارة دولية"، يتم تحديد شكلها من خلال التشاور بين الحلفاء. وبالتالي، كانت اتفاقية سايكس- بيكو أول خطة لتدويل القدس.

ولهذا السبب انطلق بيكو إلى القدس مدعوماً بجيش اللنبي المنتصر، ولكن الأخير تحايل على الفرنسيين في إبقاء القدس وبقية البلاد تحت سلطة نظام عسكري، حيث أعلن اللنبي في تصريحه الشهير على أدراج "برج داود" حين خاطب الحشود قائلاً، إن القدس قد احتلتها "قواتي. وأنا بالتالي أعلن من هنا والآن أنها خاضعة للقانون العرفي، وستبقى تحت هذا الشكل من الإدارة طالما استدعت الاعتبارات العسكرية ذلك".

وصف لورنس العرب  وفي كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" الذي تناول سيرته الذاتية المشهد كالآتي:

قال بيكو السياسي الفرنسي (... غداً عزيزي الجنرال، سأتخذ الخطوات اللازمة لتشكيل حكومة مدنية في هذه المدينة '؛ أعقبها صمت ، وبدا اللنبي مرتبكاً. ولون وجهه تحوّل إلى الأحمر، وقال بتجهم: ' في المنطقة العسكرية، السلطة الوحيدة هي سلطة القائد الأعلى، وهو أنا'. فردّ بيكو متلعثماً: ' لكن السير غراي، [غراي وزير الخارجية البريطاني في عام 1916، عندما تم إبرام اتفاق سايكس بيكو]. وسرعان ما قاطعه اللنبي مجيباً: ' السير إدوارد غراي أتى على ذكر الحكومة المدنية التي سيتمّ تشكيلها عندما أرى أن الوضع العسكري يسمح بذلك ' "

 وقد كتب لويس ماسيغنون، ضابط فرنسي مرتبط بـ بيكو، أن "اللنبي هدد بيكو بصرامة بأنه سيتم القبض عليه إذا تدخّل".

وعلى الرغم من أن اللجنة الفرنسية بقيادة بيكو حاولت فرض "وصاية دينية" على الأماكن المقدسة الكاثوليكية (كمعارضة للإيطاليين)، لم تستطع أن تكون ضمن "إدارة دولية" في القدس، بل كانت السيطرة فقط لبريطانيا كونهم وحدهم المؤهلين لحكم القدس، وأنهم  القوة الوحيدة المناسبة لحكم المسلمين واليهود والروم الكاثوليك وكافة الديانات" كما ادعوا ، وبذلك باءَ أول اتفاق لتدويل القدس بالفشل، ولم تعرف المدينة يوماً واحداً من الإدارة الدولية.

نتيجة المقاومة والثورات في فلسطين ضد الانتداب قدمت بريطانيا  ما أصبح ’’المشكلة الفلسطينية‘‘ إلى الأمم المتحدة على أساس أن الدولة المنتدبة تواجه التزامات متضاربة ثبت عدم إمكانية التوفيق بينها، واقترحت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين، إحداهما عربية فلسطينية والأخرى يهودية، مع تدويل القدس.

في تشرين الثاني/نوفمبر 1947 اقترح تقسيم فلسطين ووضَعَ تصوّراً ومنح القدس وضعاً منفصلاً تماماً كمدينة لا تنتمي إلى أي دولة إنما تخضع "لنظام دولي خاص".

القدس في الأمم المتحدة

تبنت الأمم المتحدة في عام ١٩٤٧م مشروع تقسيم فلسطين الذي حافظ على وحدة القدس وإقامة نظام دولي تحت سيطرة الأمم المتحدة.

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/8/8f/EastJerusalemMapAR.jpgأضفى اتفاق الهدنة بين (إسرائيل) والأردن في عام ١٩٤٩م طابعا رسميا على تقسيم المدينة بحكم الأمر الواقع إلى جزء شرقي يضم المدينة القديمة ويسيطر عليه الأردن الذي كان يسيطر أيضا على الضفة الغربية)، وجزء غربي، أو المدينة الجديدة التي تسيطر عليها (إسرائيل).

أسفرت حرب عام ١٩٦٧، عن احتلال القدس الشرقية والأراضي الفلسطينية ، وفي عام ۱۹۸۰ أعلنت الصهيونية  "القدس كاملة وموحدة، عاصمة لها، ومطالبة (إسرائيل) بالقدس لم تلق اعترافا من المجتمع الدولي ويعتبر إجراء أي تغييرات على الأرض غير قانوني وباطلا.

وأوصت اللجنة الخاصة بالقدس بوضع أحكام خاصة تضمن الطابع المقدس للأماكن المقدسة، وإنشاء نظام دولي دائم للإشراف على الأماكن المقدسة في القدس وغيرها وحمايتها، وتقوم الأمم المتحدة عن طريق مجلس الوصاية بإدارة النظام الدولي الخاص بالقدس.

ومع تخلي المملكة المتحدة عن انتدابها على فلسطين في ١٤ أيار / مايو ١٩٤٨ وبعد إعلان قيام دولة  (إسرائيل) خضعت القدس الشرقية، بما فيها الأماكن المقدسة والضفة الغربية لإدارة الأردن.

واتخذ تقسيم المدينة بحكم الأمر الواقع بين بلدين متحاربين حدودهما مغلقة، طابعا رسميا في اتفاق الهدنة بين إسرائيل والأردن في 3 نيسان / أبريل ١٩٤٩،

بيد أن المجتمع الدولي اعتبر أن الاتفاق ليس له أثر قانوني على استمرار صلاحية الأحكام المتعلقة بتدويل القدس في قرار التقسيم، واتخذت (إسرائيل) عقب ذلك عددا من التدابير لبسط سيطرتها على القدس الشرقية، وأعلن المجتمع الدولي بطلان تلك التدابير.

من خلال ما سبق نجد بأن جميع المحاولات للسيطرة على القدس من القوى الغازية فشلت ، وجميع المؤامرات التي حيكت ضد القدس ومقدساتنا من الدول الاستعمارية لم تستطع أن تحقق أهدافها بالرغم من قوة وجبروت هذه الدول ، وما استعانتهم باليهود والصهيونية إلا دليل فشلهم في السابق وفشلهم اللاحق مهما امتد الزمان .

والثورات الفلسطينية التي قامت ما اسكتها إلا تامر الحكام العرب عليها ، واستمرارها الى الان ورفضها لجميع المشاريع الصهيونية إلا دليل على ايمان الشباب العربي المسلم بقدرته على تحرير ارضه واسترجاع حقوقه المسلوبة ، وهذا ما برهنته القوى الإسلامية في فلسطين الان.

 

 

 محمد اللكود

المراجع :

-         مارتن كريمر هو "زميل كوريت الزائر" في معهد واشنطن.

-         البعد المسيحي للسياسة الروسية في المشرق العربي الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية/2021

-         مؤسسة الدراسات الفلسطينية

-         وضع القدس . دراسة للجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه الأمم المتحدة 1997م

 



الجمعة، 2 أغسطس 2024

مدح الرسول الكريم محمد صلى ألله عليه وسلم

 الرئيسية » الهدي النبوي

القول المبين في مدح النبي ﷺ

محمد بن بديع موسى


ماهو المشروع في مدح النبي سيد المرسلين محمد ﷺ ؟


قال عليه الصلاة والسلام : “لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله”. رواه البخاري.

 قال ابن حجر: الْإِطْرَاء الْمَدْح بِالْبَاطِلِ، تَقُول: أَطْرَيْت فُلَانًا، مَدَحْته فَأَفْرَطْت فِي مَدْحه. اهـ.

  ولما قال وفد بني عامر لرسول الله ﷺ : أنتَ سيِّدُنا ، قال : السَّيدُ اللهُ . قالوا : و أفضلُنا فَضلًا ، و أعظمُنا طَوْلًا ، فقالَ : ” قولوا بقولِكم أو بعض قولكم، ولا يَستجرِيَنَّكُم الشَّيطانُ “. رواه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني. وعند أحمد : ( ما أحبُّ أن ترفعوني فوقَ منزلتي التي أنزلني الله 

  قال ابن الأثير في “النهاية”: أَيْ لَا يَغْلِبَنكُمْ فَيَتَّخِذكُمْ جَرْيًا أَيْ رَسُولًا وَوَكِيلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَدحوهُ فَكَرِهَ لَهُمْ الْمُبَالَغَة فِي الْمَدْح فَنَهَاهُمْ عَنْهُ. اهـ.

  فينبغي العلم أن مدح النبي ﷺ ليس عبادة مستقلة يتقرب فيها المسلم إلى الله عز وجل، مثل الصلاة والسلام عليه، ومحبته، ونصرته. وأنه يشرع إن كان للتعريف بالنبي ﷺ، وبيان فضله ، ودراسة سيرته، والدعوة إلى سنته، على أن لايغلو فيها المادح، ويجعلها غناء يتغنى به، ووسيلة ليشتري بها عرَضاً من الدنيا، كأصحاب فِرَق الإنشاد والطرب في زماننا الذين صاروا يتصدرون الواجهات والشاشات، ويحيون المناسبات وتقام لهم الولائم والموالد، ويتاجرون بالحفلات.!!

   والغلو في مدح النبي ﷺ ليس من العبادات المشروعة، وهو منهيٌّ عنه في كل الأحوال – والنبي ﷺأهلٌ للثناء والمدح المشروع كما هو مُجمَع عليه بين كل طوائف المسلمين، ولا يٌبغض النبي ﷺ إلا كافر – والتعبير والوصف الذي يحبه النبي ﷺ هو: ( عبدُ الله ورسوله ) وهو ما أرشد إليه كثيراً في أحاديثه الشريفة، وقد جاء وصفُه بالعبودية لله تعالى في المقامات الشريفة، والأمور العظيمة في القرآن الكريم.

   ثم إن رفع النبي ﷺ فوق منزلته والغلو في مدحه ليس من علامات محبته.

  قال تعالى : { قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ }. (آل عمران : 31)

  وقال تعالى: { فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِیِّ ٱلۡأُمِّیِّ ٱلَّذِی یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَـٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ } ( الأعراف : 158)

  وقال تعالى : { فَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُوا۟ ٱلنُّورَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ مَعَهُۥۤ أُو۟لَـٰۤئكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ } (الأعراف :157 ) .

  فالمقصود: الإيمان بالنبي ﷺ ، وبما جاء به من عند الله، ومحبته، والاهتداء بهديه، واتباع طريقته، والدفاع عنه، والذّبِّ عن سنته، وليس التغني والطرب والرقص عند مدحه ، وجعل ذلك ديناً يدين به الناس، كقولهم :

يامادحاً خير الأنام بادر ولا تخش الملام

قل مااستطعت بمدحه مدّاح طه لا يُضام

مدحُ النبي العربي. ديني ويقيني ومذهبي!

   نعم لقد صار ديناً عند البعض وغايةً، وهو مما زينه الشيطان لكثير من المسلمين ليضلّهم بذلك عن التمسك الحق بهدي رسول الله ﷺ ، واتباع سنته!!

   وإن مدح العباد له مهما بَلَغ لا يُذكَر تجاه مدح رب العزة له، وثنائه عليه، ورفع ذِكره، وشهادته فيه بمثل قوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } ، فهل يَرفع مدحُهم قدْرَ النبي ﷺ بعد ذلك؟

  ومامعنى أن يقول قائلهم : قمرٌ سيدنا النبي ، أو نورٌ، أو جميلٌ، أو ياقوتةٌ والناسُ كالحجر، أو محمدٌ جُبِلت بالنور طينته، أو محمدٌ لم يزل نوراً من القِدم، أو محمد ذِكره نورٌ لأنفسنا، محمد عمَّنا إحسانُ نعمته، أو سببُ الإنشاء من عدم، أو مدحه يشفي من السِّقم، أو محمدٌ قبلة الدنيا وكعبتها… ؟؟!

  وكل عاقل منصِف عنده مبادئ الإسلام يعلم أن هذا المدح هو غلو واضح، وتنطّع فاضح، وفيه مخالفة لقواعد الشريعة وأصول الدين، ورفعٌ للنبي فوق منزلته التي أنزله الله بها، وإطراءٌ نهى عنه النبي ﷺ ، وإخراج له عن بشريته التي وصفه الله بها.

  والذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة أن النبي ﷺ بشرٌ كسائر البشر في طبيعته البشرية، وجٍبلّته الخَلقية، ينام، ويأكل، ويمشي في الأسواق، ويحزن ويرضى، ويغضب ويبكي، ويخرج منه فضلات من دم وعَرَق وغيره مما يخرج من الناس، ويجري عليه من البلاء والضراء ما يجري على الناس، من مرض وسحر وموت، ولا يستطيع عليه الصلاة والسلام أن يدفع عن نفسه الأذى إلا بأمر الله وحفظه، وليس له نور يغطي الشمس، وله ظل كسائر الناس، ولم يُخلق من نور ولم يرد في السنة الصحيحة ما يدل على أنه خَلْق نوراني، أو له صفات خارقة خارجة عن مألوف البشر، أو أنه ليس له ظل، بل بَدَنه من لحم وعظم وما خالطهما. وخُلق من أب وأم، ولا يعلم إلا ما علَّمه الله تعالى قال الله تعالى: { قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰ⁠حِدࣱ } (الكهف :110)

  قال ابن عباس: “علَّم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه، فأمره أن يقرَّ فيقول: إني آدمي مثلكم إلا أني خُصصت بالوحي وأكرمني الله به”.

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني).

ومديح هؤلاء الشعراء والمنشدين الذي نسمعه اليوم ماهو إلا غناء – في الغالب – لايفهمون معناه ولا يعرفون حكمه، بل يردّدونه، ويطربون به، بدليل أنك لاتجدهم – في أكثر الأحيان – يصلون على النبي في ثناياه، وهو الواجب عند ذكره، كما قال ﷺ : ” البخيلُ مَنْ ذُكرتُ عندَه فلمْ يُصلِّ عليَّ”.رواه الترمذي.

  فالحذر الحذر من الغلو في مدحه عليه الصلاة والسلام، فإن هذا قد يصل بالعبد إلى درجة الشرك بالله تعالى، أو يكون ذريعة له، وينطبق عليه الحديث السابق: ” قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان” .

ولقد سمعت – والله – بعضهم يُنشد ويقول:

محمدٌ باب الرَّجا لموحدِ ماخاب عبدٌ أمّه في مقصدِ

أنا عبده فإذا تعدّى معتدي أنزلت حاجاتي بباب محمد.

فبالله عليكم هل هذا حبٌّ للنبي ﷺ ، أم شرك صريح بالله تعالى ؟!

ومما يُؤخذ على هؤلاء المنشدين أنهم كثيراً مايطربون بأشعار غزَل وعشقٍ وربما مُجون وفجور للفُسّاق، ويصرفونها نحو النبي ﷺ أو مقدسات المسلمين، فيتجاوزون كل حدود الأدب والتعظيم لرسولهم ﷺ ورعاع الناس يصفقون لهم، ويثنون عليهم !!

وأما مقولة : ( ودَعوتُ بِطهَ اللهَ ). فهذه العبارة نوع من التوسل، والتوسل بذات النبي ﷺ ، أو بحقه، أو جاهه، من أنواع التوسل الممنوعة – على الراجح من أقوال أهل العلم – ولم يفعله أحد من الصحابة أو التابعين أو الأئمة المعتبرين، وهو بدعة، لعدم الدليل على ذلك؛ ولأن ذلك من الغلو فيه ﷺ .

  على أن ( طه ) ليس من أسماء النبي ﷺ . الواردة في الكتاب والسنة.

فالواجب على المسلم المحبّ لنبيه حقيقة، والذي يسعى لمرضاة ربه، والنجاة من عذابه، أن لايغتر بهؤلاء المغنين الجاهلين الذين أفسدوا على كثيرٍ من الناس دينهم، وصدّوهم عن كتاب ربهم، ودنسوا بيوت الله وأهانوها بلهوهم وغنائهم ورقصهم ومعازفهم، وأن لايقلدهم ولايجاملهم، ولايطرب بما يُغضب ربه عز وجل، بل يَغضب لذلك ويَنهى عنه، وأن يُشغل وقته بذكر الله تعالى، والصلاة والسلام على نبيه، وتعلُّم سنته وسيرته والدعوة إليها، وأن يقف على ماوقف عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين فهم خير القرون، وهم أكثر اتباعاً ومحبة للنبي ﷺ منا بالاتفاق.

والله تعالى يقول : { وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا } ( النساء : 115 )

الثلاثاء، 30 يوليو 2024

حصن الزكاة

 

الأمانة وحصن الزكاة

🕋 عَزم قوم من أهل الثراء في بلاد العراق على الحج ، فأرادوا أن يصحبهم من يقوم على خدمتهم، فأشاروا عليهم برجل خدوم طباخ خفيف الظل لم يحجّ ، فعرضوا عليه أن يصحبهم ويخدمهم فيصنع طعامهم ويقضي حوائجهم وتكون أجرته الحجّ معهم، فوافق فرحاً بهذا العرض السخيّ، وكان الحج من أمانيه التي حال بينه وبينها الفقر.

سلكوا طريقهم للحج, وعندما وصلوا مكة  استأجروا بيتاً وخصصوا فيه حجرة تكون مطبخاً ومسكن للطباخ

وبدأ الطباخ  بالعمل جاداً فرحاً، وفوجئ ذات يوم . وهو يدق بالهاون  أن الأرض تُطَبْطِبُ لها صدى وتهتز وتوحي  بأنّ شيئاً مدفوناً في قعرها، ودعته نفسه أن  يبحث عن المُخبَّأ فلعل رزقاً ينتظره في جوف الأرض، وكانت المفاجأة السعيدة:

 الذهب الأحمر في  صندوق صغير من الحديد،  التفت يمنة ويسرة لئلا يكون أحد قد اطلع على الرزق المستور، وبعد تفكير،  رأى أن يعيده مكانه حتى يأذن القوم بالرحيل فيأخذه معه، ويخفيه عنهم ،

 وبدأ مع تلك الساعة سيل الأفكار والأماني،  ماذا يصنع بهذا المال وكيف سيودّع أيام الفقر والحاجة،.

فلما آذنوا بالرحيل  جعل الصرّة بين متاعه وحملها على جمله وأحكم إخفاءها وخبرها،  وسار القوم وصاحبنا لا يشعر بمشقة السفر ولا بالضيق من بعد الطريق ، والأماني تحوم حول رأسه والخوف الشديد يحاصره شفقة على المال من الزوال.

عندما وصلوا منطقة  قرب  بغداد نزلوا ليرتاحوا، ونزل صاحبنا وبدأ عمله المعتاد في الخدمة والطبخ، وفجأة شرَدَ جمل الخادم 🐪بما حمل، فتسارع القوم لردّه وكان أشدّهم في ذلك صاحبه ، ولكنّ الجمل🐪  فات على الجميع ولم يدركه أحد فعاد الناس بالخيبة، وتأثر الخادم حتى بلغ الأمر حدّ البكاء الذي لا يليق بثبات الرجال.

لما رأى أصحابه  منه هذا الجزع طمأنوه ووعدوا أن يضمنوا جمله ويعوضوه خيراً منه وخيراً مما عليه،  لكنه أبدى لهم بأنّ عليه أشياء لا يمكنه الاستغناء عنها وهدايا وتحفاً اشتراُها من مكة والمدينة لأهله، وهذا سبب حزنه، لكن القوم لم يلتفتوا لما أصابه وطلبوا الرحيل لمواصلة المسير والتعجّل إلى الأهل، ورَضخ مُكرهاً لطلبهم وسار معهم حتى وصل بلده مغموما من ذهاب الذهب وفقدان الأمل.

بعدها بعام رغب آخرون من الأثرياء الحجّ وسألوا عمّن يرافقهم ويقوم بخدمتهم فأوصاهم الأوّلون بصاحبنا ومدحوه لهم،  وأثنوا على عمله خيراً، وفي طريقهم للحج نزلوا منزلاً قريباً من المنزل الذي فقد فيه صاحبنا جمله. ولما ذهب لقضاء حاجته تذكر العام الماضي والجمل والصندوق وتداركته الحسرة والندم وبعدها مرّ ببئر مهجورة فأطلّ فيها فوجد في قاعها أثر تأجج ضوء عكسه نور القمر وهو يلمع فحباه التطفل لينزل البئر  فنزل والأمل يحدوه أن يكون ذهب او دننانير ذهبيه تعوضه عن العام الماضي فلما نزل قاع البئر وجد عضام جمل قد نزع لحمه  ومتاع لم تفارق ذاكرته فوجده بالفعل جمله ميتا قد بليت عظامه وأما المتاع وكيس الذهب بحاله لم ينقص منهما شيء، أخذ الذهب وأخفاه وعادت إليه أفراحه وأمانيه، وسكن مع أصحابه في البيت نفسه واتخذ من الحجرة التي خصصت له مطبخاً ورأى أن يعيد المال إلى مكانه ريثما ينتهي الحج فيأخذه مرة أخرى.

في تلك الأيام جاء  صاحب البيت وطلب أن يأخذ شيئاً من البيت فأذنوا له، فدخل حجرة صاحبنا وقصد إلى موضع الصندوق فحفر ثم أخرج الصندوق، كان الطباخ  ينظر إليه وهو في غاية الذهول، فلمّا رآه قد عثر عليه وأخذه استوقفه قائلاً له، ما هذا الذي أخذت؟

قال صاحب البيت .. ذهب كنت خبّأته في  هذا الموضع من سنين وقد احتجته اليوم وجئت لآخذه.

لم يتمالك  صاحبنا نفسه أن قال له:  وهل تعلم  أن مَالَكَ هذا قد وصل إلى أطراف بغداد ثم عاد إلى هذه البقعة لم ينقص منه شيء.

قال صاحب البيت : والله لو طاف الأرض كلها لعاد إلى مكانه وما ضاع منه شيء لأني أزكيه كل عام لا أترك من زكاته شيئا ، واستودعته ربي فمن استودع ربه شيئا حتما انه سيحفظه له والله يحفظه لي..

قلت :إن كان المال وهو جزء منفصل عن صاحبه قد حفظه الله بتزكيته !! فكيف بتزكية النفس !! وتزكية اللسان !! وتزكية العلم !!

(( الُلُهمٌ آتْ نَفَوَسِنَا تْقًوَاُها وَ زُكِها أنَتْ ٌخيَرَ مٌنَ زُكِاُها أنَتْ وَلُيَها وَ مٌوَلُها ))

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( احفظ الله يحفظك))

الاثنين، 29 يوليو 2024

 

ﻣﻮﻗﻒ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻣﻦ اﻟﻤﺮﺃﺓ اﻟﻤﺨﺰﻭﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺮﻗﺖ

ﺇﻥ اﻷﺣﺪاﺙ ﻓﻲ ﻓﺘﺢ ﻣﻜﺔ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺃﻥ ﺗﺤﺼﻰ ﻓﻲ ﻟﻘﺎء ﻭاﺣﺪ؛ ﻷﻥ اﻷﺣﺪاﺙ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪا، ﻭﻛﻨﺖ ﺃﻭﺩ ﺃﻥ ﺃﺗﻜﻠﻢ ﻓﻲﻫﺎ، ﻟﻜﻦ اﻟﻮﻗﺖ ﻻ ﻳﺘﺴﻊ؛ ﻟﺬﻟﻚ ﺳﺄﺧﺘﺎﺭ ﺑﻌﺾ اﻟﺤﻮاﺩﺙ اﻟﻘﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺃﻋﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻌﻠﻴﻘﺎ ﺳﺮﻳﻌﺎ، ﻭﻧﺴﺄﻝ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﺃﻥ ﻳﺠﻤﻊ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﻠﻘﺎءاﺕ اﻷﺧﺮﻯ ﻟﻨﻔﺼﻞ ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻒ ﻣﻦ ﺃﻫﻢ اﻟﻤﻮاﻗﻒ اﻟﻻﻓﺘﺔ ﻟﻠﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﻓﺘﺢ ﻣﻜﺔ، ﻭﻫﺬا اﻟﻤﻮﻗﻒ: ﻫﻮ اﻟﻤﻮﻗﻒ ﻣﻦ اﻟﻤﺮﺃﺓ اﻟﻤﺨﺰﻭﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺮﻗﺖ، ﻫﺬﻩ اﻟﻤﺮﺃﺓ ﺳﺮﻗﺖ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻓﺘﺤﺖ ﻣﻜﺔ، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻻﺗﻲ ﺃﺳﻠﻤﻦ، ﻓﻬﻲ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ ﺷﺮﻳﻔﺔ ﻣﻦ اﻷﺷﺮاﻑ، ﻭﻗﺒﻴﻠﺔ ﺑﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ ﻗﺒﻴﻠﺔ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺟﺪا، ﻭﻛﻤﺎ ﻳﻌﻠﻢ اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺃﻥ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺑﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ ﻭﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﻋﻼﻗﺔ ﺣﺴﺎﺳﺔ ﺟﺪا، ﻭﻛﺎﻥ اﻟﺘﻨﺎﻓﺲ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ اﻷﻣﻮﺭ ﺗﻘﺮﻳﺒﺎ، ﻭﻛﺎﻥ ﺃﺑﻮ ﺟﻬﻞ ﺯﻋﻴﻢ ﺑﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ، ﻭﻛﺎﻥ اﻟﻤﻮﻗﻒ ﺣﺮﺟﺎ ﺟﺪا ﻣﻊ ﻫﺬﻩ اﻟﻘﺒﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﺬاﺕ، ﻭﻳﺨﺸﻰ ﻣﻦ ﺃﻥ ﺗﻨﻘﻠﺐ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ اﻧﻘﻼﺑﺎ ﻗﺪ ﻻ ﻳﺤﻤﺪ ﻋﻘﺒﺎﻩ، ﻭﻣﻊ ﺃﻧﻨﺎ ﺭﺃﻳﻨﺎ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺴﻼﻡ ﻳﺤﺎﻭﻝ ﻗﺪﺭ اﻟﻤﺴﺘﻄﺎﻉ ﺃﻥ ﻳﺆﻟﻒ ﻗﻠﻮﺏ اﻟﻘﺒﺎﺋﻞ، ﻓﺄﻟﻒ ﻗﻠﻮﺏ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ، ﻭﺃﻟﻒ ﻗﻠﻮﺏ ﺑﻨﻲ ﻋﺒﺪ اﻟﺪاﺭ، ﻭﺃﻟﻒ ﻗﻠﻮﺏ ﺑﻨﻲ ﻋﺎﻣﺮ ﻛﻤﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﻓﻲ اﻟﺪﺭﺱ، ﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﺣﺪﺙ ﻣﻬﻢ ﻣﻊ ﺑﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ، ﻭﻗﺪ ﻳﻔﻬﻤﻪ اﻟﻔﺎﻫﻤﻮﻥ ﺃﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻓﻲﻫ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ اﻟﺘﺄﻟﻴﻒ ﻟﺒﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ، ﻟﻜﻦ ﻧﺤﺘﺎﺝ ﺃﻥ ﻧﺪﺭﺱ اﻟﻤﻮﺿﻮﻉ ﺑﺪﻗﺔ.

ﻓﻬﺬﻩ اﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ ﺃﺷﺮاﻑ ﺑﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ ﺳﺮﻗﺖ، ﻓﻘﺮﺭ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺃﻥ ﻳﻘﻴﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺤﺪ ﻭﻫﻮ ﺃﻥ ﻳﻘﻄﻊ ﻳﺪﻫﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺳﺮﻗﺖ ﻭاﻛﺘﻤﻠﺖ ﺃﺭﻛﺎﻥ ﺟﺮﻳﻤﺔ اﻟﺴﺮﻗﺔ، ﻭﻫﻨﺎ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺴﻼﻡ ﻟﻢ ﻳﻘﻞ: ﺃﺭﻳﺪ ﺃﻥ ﺃﺗﺄﻟﻒ ﻗﻠﻮﺏ ﺑﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ ﺑﺎﻟﻌﻔﻮ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ اﻟﻤﺮﺃﺓ اﻟﺘﻲ ﺳﺮﻗﺖ، ﻟﻜﻨﻪ ﺃﻗﺎﻡ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺤﺪ ﻣﻀﺤﻴﺎ ﺑﻤﺎ ﻗﺪ ﻳﺤﺪﺙ ﻣﻦ ﺃﺣﺪاﺙ ﺩاﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﺩاﺧﻞ ﻣﻜﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﻄﺒﻴﻘﻪ ﻟﻬﺬا اﻟﺤﺪ، ﻷﺟﻞ ﺃﻥ ﻳﺮﻳﻨﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﻣﻬﻤﺎ ﺟﺪا ﻭﻳﺰﺭﻉ ﻓﻲﻧﺎ ﻣﻌﻨﻰ ﻻﺯﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﻔﻬﻤﻪ ﺟﻤﻴﻌﺎ ﻓﻬﻤﺎ ﺟﻴﺪا ﺩﻗﻴﻘﺎ، ﺃﻻ ﻭﻫﻮ: ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﺑﺪا ﻷﻱ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻧﺴﺒﻪ ﻭﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺷﺮﻳﻔﺎ ﻭﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﺃﻥ ﻳﺘﻐﺎﺿﻰ ﻋﻨﻬﺎ ﺃﻭ ﻳﻌﻄﻠﻬﺎ، ﺃﻭ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﺄﻣﺮ ﻣﻦ اﻷﻣﻮﺭ ﻳﻤﻨﻊ ﻣﻦ ﺇﻗﺎﻣﺘﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﺪﻭﻟﺔ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ، ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻌﻮاﻗﺐ ﻭﺧﻴﻤﺔ، ﻭﻗﺮﺭ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺫﻟﻚ اﻷﻣﺮ ﻭﺷﺎﻉ ﺑﻴﻦ اﻟﻨﺎﺱ ﺃﻥ اﻟﻤﺮﺃﺓ اﻟﻤﺨﺰﻭﻣﻴﺔ ﺳﺘﻘﻄﻊ ﻳﺪﻫﺎ، ﻓﺬﻫﺐ ﺑﻨﻮ ﻣﺨﺰﻭﻡ ﺇﻟﻰ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺴﻼﻡ ﻟﻴﺴﺘﺸﻔﻌﻮا ﻋﻨﺪﻩ، ﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮا ﺃﻥ ﻳﻜﻠﻤﻮﻩ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ، ﻓﺬﻫﺒﻮا ﺇﻟﻰ ﺃﺳﺎﻣﺔ ﺑﻦ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﺣﺎﺭﺛﺔ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﻳﺴﻤﻰ ﺑﻴﻦ اﻟﺼﺤﺎﺑﺔ: اﻟﺤﺐ ﺑﻦ اﻟﺤﺐ، ﻛﺎﻥ ﺣﺐ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺴﻼﻡ ﺯﻳﺪ ﺑﻦ ﺣﺎﺭﺛﺔ، ﻭﺃﺳﺎﻣﺔ ﺑﻦ ﺯﻳﺪ ﻫﻮ اﻟﺤﺐ ﺑﻦ اﻟﺤﺐ، ﻭﻛﺎﻥ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻳﺤﺒﻪ ﺣﺒﺎ ﺟﻤﺎ، ﻓﻓﻲ ﺃﺛﻨﺎء ﺩﺧﻮﻟﻪ ﻣﻜﺔ اﻟﻤﻜﺮﻣﺔ ﻓﻲ ﻳﻮﻡ اﻟﻔﺘﺢ ﺃﺭﺩﻓﻪ ﺧﻠﻔﻪ، ﻣﻦ ﺷﺪﺓ ﺣﺒﻪ ﻟﻪ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﺃﺭﺿﺎﻩ.

ﻓﺬﻫﺒﻮا ﺇﻟﻰ ﺃﺳﺎﻣﺔ ﻭﻗﺎﻟﻮا ﻟﻪ: اﺳﺘﺸﻔﻊ ﻟﻬﺬﻩ اﻟﻤﺮﺃﺓ ﺃﻻ ﺗﻘﻄﻊ ﻳﺪﻫﺎ؛ ﻓﻬﻲ اﻣﺮﺃﺓ ﻋﺰﻳﺰﺓ ﺷﺮﻳﻔﺔ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ، ﻓـ ﺃﺳﺎﻣﺔ ﺑﻦ ﺯﻳﺪ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﺃﺧﺬ اﻟﻤﻮﺿﻮﻉ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻭﻳﺴﺮ ﻭﺫﻫﺐ ﺇﻟﻰ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺴﻼﻡ ﻟﻴﺴﺘﺸﻔﻊ ﻟﻬﺬﻩ اﻟﻤﺮﺃﺓ ﻓﻲ ﺣﺪ ﻣﻦ ﺣﺪﻭﺩ اﻟﻠﻪ، ﻓﻠﻤﺎ ﻛﻠﻤﻪ ﺃﺳﺎﻣﺔ، ﺗﻠﻮﻥ ﻭﺟﻪ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻏﻀﺐ ﻏﻀﺒﺎ ﺷﺪﻳﺪا، ﻭﻗﺎﻝ ﻟـ ﺃﺳﺎﻣﺔ: (ﺃﺗﺸﻔﻊ ﻓﻲ ﺣﺪ ﻣﻦ ﺣﺪﻭﺩ اﻟﻠﻪ ﺃﺗﺸﻔﻊ ﻓﻲ ﺣﺪ ﻣﻦ ﺣﺪﻭﺩ اﻟﻠﻪ؟!) ﺣﺘﻰ ﺇﻥ ﺃﺳﺎﻣﺔ ﺑﻦ ﺯﻳﺪ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﺃﻱ ﻣﺒﺮﺭ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ: (ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ اﺳﺘﻐﻔﺮ ﻟﻲ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ اﺳﺘﻐﻔﺮ ﻟﻲ).

ﻓﺎﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺃﻗﺎﻡ اﻟﺤﺪ ﻋﻠﻰ اﻟﺴﻴﺪﺓ اﻟﻤﺨﺰﻭﻣﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺮﻗﺖ ﻟﻢ ﻳﻘﺒﻞ ﺷﻔﺎﻋﺔ ﺃﺳﺎﻣﺔ ﺑﻦ ﺯﻳﺪ ﻭﻻ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﺼﺤﺎﺑﺔ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ ﺃﺟﻤﻌﻴﻦ، ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ اﻟﻴﻮﻡ ﻗﺎﻡ ﻭﺧﻄﺐ ﺧﻄﺒﺔ ﻟﻴﻔﻬﻢ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻫﺬا اﻟﻤﻌﻨﻰ اﻟﺪﻗﻴﻖ؛ ﻟﻴﻀﻊ ﻟﻬﻢ ﺃﺳﺲ ﺑﻨﺎء ﺩﻭﻟﺔ ﺇﺳﻼﻣﻴﺔ، ﻟﻴﻮﺿﺢ ﻟﻬﻢ ﺃﻥ اﻟﻌﺪﻝ ﺃﺳﺎﺱ اﻟﻤﻠﻚ ﺣﻘﺎ، ﻭﺗﻄﺒﻴﻘﺎ ﻭاﻗﻌﻴﺎ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺓ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻗﺎﻡ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻗﺎﻝ: (ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻫﻠﻚ اﻟﻨﺎﺱ ﻗﺒﻠﻜﻢ ﺃﻧﻬﻢ ﻛﺎﻧﻮا ﺇﺫا ﺳﺮﻕ ﻓﻲﻫﻢ اﻟﺸﺮﻳﻒ ﺗﺮﻛﻮﻩ، ﻭﺇﺫا ﺳﺮﻕ ﻓﻴﻬﻢ اﻟﻀﻌﻴﻒ ﺃﻗﺎﻣﻮا ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺤﺪ، ﻭاﻟﺬﻱ ﻧﻔﺲ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻴﺪﻩ ﻟﻮ ﺃﻥ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﺑﻨﺖ ﻣﺤﻤﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺳﺮﻗﺖ ﻟﻘﻄﻌﺖ ﻳﺪﻫﺎ) ﻫﻜﺬا ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ اﻟﻮﺿﻮﺡ، ﻓﺤﺪﻭﺩ اﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﺑﺪا ﺃﻥ ﻧﻘﺘﺮﺏ ﻣﻨﻬﺎ، ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: {ﺗﻠﻚ ﺣﺪﻭﺩ اﻟﻠﻪ ﻓﻼ ﺗﻘﺮﺑﻮﻫﺎ} 


[ اﻟﺒﻘﺮﺓ:187] 

ﻭﻗﺎﻝ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ: {ﺗﻠﻚ ﺣﺪﻭﺩ اﻟﻠﻪ ﻓﻼ ﺗﻌﺘﺪﻭﻫﺎ} 


[ اﻟﺒﻘﺮﺓ:229] 

، ﻫﻜﺬا ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﻜﻮﻥ ﻣﻊ ﺣﺪﻭﺩ ﺭﺏ اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ.

ﻓﻬﻮ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺗﺄﻟﻒ ﻗﻠﻮﺏ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﺄﻣﻮﺭ ﻣﺎﻟﻴﺔ ﻭﺑﺄﻣﻮﺭ ﻣﺎﺩﻳﺔ ﻫﺬا ﺃﻣﺮ ﻣﻤﻜﻦ، ﺃﻣﺎ ﺃﻥ ﻳﺘﺄﻟﻒ ﻗﻠﻮﺏ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﺘﻌﻄﻴﻞ ﺣﺪ ﻣﻦ ﺣﺪﻭﺩ اﻟﻠﻪ ﻓﻬﺬا ﻻ ﻳﻘﺒﻞ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻫﺬا اﻟﺬﻱ ﺃﺧﻄﺄ ﻋﺰﻳﺰا ﺃﻭ ﺷﺮﻳﻔﺎ ﻛﺒﻴﺮا ﺃﻭ ﺻﻐﻴﺮا، ﺭﺟﻼ ﺃﻭ اﻣﺮﺃﺓ، ﻓﺄﻱ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻭﻗﻊ ﻓﻲ ﺣﺪ ﻣﻦ ﺣﺪﻭﺩ اﻟﻠﻪ ﻻﺑﺪ ﺃﻥ ﻳﻘﺎﻡ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺤﺪ.

ﻭﻫﺬﻩ اﻟﻜﻠﻤﺎﺕ اﻟﺘﻲ ﻗﺎﻟﻬﺎ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﻲ ﺧﻄﺒﺘﻪ: (ﻟﻮ ﺳﺮﻗﺖ ﻓﺎﻃﻤﺔ ﺑﻨﺖ ﻣﺤﻤﺪ ﻟﻘﻄﻌﺖ ﻳﺪﻫﺎ)، ﺣﺘﻰ ﻳﻔﻬﻢ ﺑﻨﻲ ﻣﺨﺰﻭﻡ ﺃﻥ ﻫﺬا ﺃﻣﺮ ﻟﻴﺲ ﺧﺎﺻﺎ ﺑﻬﻢ، 


مرت هذه القصة وانا اقرا دروس الدكتور .راغب السرجاني ..