عوفه اليتيمة المظلومة
قصة من وجع الواقع...
وُلدت عوفه في ليلةٍ قاحلة من ليالي كانون الثاني القاسية، أواخر خمسينات القرن الماضي.
بردٌ ينخر العظام، وسماء تمطر وجعًا كأنها تنعى ما سيأتي.
حين دَبّ الطلق في جسد أمها، هرعت "الداية سكوت النعيمي" وهي متلفّعة بشالٍ أسود وفروة زوجها، تصيح في نساء الحارة:
ـ صلّوا على النبي، ساعدوها... المخلوقة عم تتعذب.
كان الألم يملأ الغرفة، وحين اشتدّ، نادت إحدى النساء:
ـ جيبوا عقال الفقير القطب يوسف الرفاعي، يحطوه على راسها... يمكن ربنا يهوّنها عليها.
صرخت عوفه لأول مرة، لكن أحدًا لم يبتسم... كانت أنثى.
بينما سلفتها قبل يومين أنجبت "عليّ"، وسمّوه "عليوُه" ودللّوه، أما هي... فما كانت أكثر من شهيق بارد وسط صمتٍ قاتل.
الأم ابتسمت لها… كانت تودّعها.
رحلت أمها، ولم تكن عوفه قد بلغت العامين، فتركتها في عراء العالم، بلا حضن ولا اسمٍ تحمله بحنان.
طفلةٌ مذعورة، تسير بين نظرات "مرَت الأب" كأنها تمشي على زجاج مكسور.
كانت تلك المرأة قاسية، لا تعرف من الأمومة إلا اسمها، تنهش الطفلة كما تفعل الذئاب حين يغيب الراعي.
حرمتها من كل شيء:
لا حلوى، لا لعب، لا مدرسة، لا حنان... حتى الأطفال كانوا يفرّون من ظلّها، وكأنّها تهمة يُخشى الاقتراب منها.
في يومٍ ما، جبرها الأب أن تمشّط شعر الطفلة من القمل، وكان القمل في تلك الأيام لا يخلو منه حتى الشبان العشاق.
لكنها مشّطت رأسها بمشطٍ أبيض عريض كأنها تحرث الأرض، لا شعر طفلة، بحجة "طلوع الصيبان".
أصيبت عوفه بالحصبة الحمراء، وكانت تلك الحصبة تحصد الأطفال حصادًا، لكنها نجَت... بأعجوبة.
جاء الدكتور "أبو راشد"، سخّن الإبرة على الببور، وطعَنها كما يُطعن العجين بسكين الفقراء، فنجت.
لكن لا أحد قال لها "الحمد لله على سلامتك"...
بعكس "عليوُه"، الذي احتفلوا به بالحلوى، والفرنكات، والضحكات.
أما عوفه؟ فلم تملك فرنكًا واحدًا، ولا حتى شمعة.
كبرت في بيتٍ لا يبتسم، زاوياه معتمة، وصباحاته تطحن الكُره مع كسرة الخبز.
فيه، لم تكن الطفولة نعمة، بل لعنة تُرمى عند باب الفرن.
كانت تُعاقب على الضحك... والضحك نادر، وتُصفع إن تأخرت بفهم الأوامر، وكأنها خادمة لا تعرف الحب ولا الأمان.
لا صديقة، ولا حضن، ولا أحد.
مات الأب... ثم ماتت الخالة.
وظلت عوفه، تحارب الحياة وحدها.
ورثت الفقر، والصمت، والعزلة، والجوع،
صارت ظلًا معلّقًا في بيتٍ لا أحد يسأل فيه: من هذه؟
لم يفتقدها أحد.
كبرت، لكن قلبها ظلّ طفلًا مذعورًا.
كانت امرأة بجسدٍ متعب، بعينين لا تحلمان، ويدين تبحثان عن فتات الرضا.
عاشت على الهامش، تنام على حصيرة، تعمل بالأجرة، تحصد القمح وتقطف الزيتون، وتنقي البندورة والبطاطا.
الحب؟ لم يقترب منها.
ولا أحد طرق بابها، لا أحد سأل عن يومها أو غيابها.
بالنسبة لهم، كانت "عوفه الفقيرة".
اسم دون وجه، ووجه دون ملامح.
مرضت، ولزمت فراشها، وكنتُ أنا الوحيد الذي يزورها.
كنت أطرب وهي تغنّي بصوتٍ مكسور:
مريض واعني… مريض واعني
وأنا بحال التلف، وما نشدوا عني
يومن كنت قوية، كلهم يريدوني
واليوم عند المرض… ما دَحجوا بيا!
وفي ليلة من ليالي رمضان، سمعتها تهمس:
أني لبجي على حالي وأنا حي
وضاقت الدنيا بوجهي وأنا حي
أخويا ال ما سأل عني وأنا حي
ما أريده عند هِيَلات التُراب...
وفي الليلة التالية، رحلت عوفه.
عام 2015، وكانت سوريا في عزّ الحرب.
القصف ينهال، والموت في كلّ زاوية…
لكنها ماتت بصمت، دون أن يشعر بها أحد.
خمسة رجال فقط، دفنوها تحت التراب.
دفنوا جسدها… ونسوا روحها.
هكذا انتهت "عوفه"...
وُلدت في البرد، وعاشت بردًا، وماتت وحدها.
لكنها كانت.
كانت وجعًا عميقًا بما يكفي ليكون مرآةً لمجتمعٍ
ينسى أولاده، حين يكونون أضعف من أن يصرخوا.
بقلم: عبدالوهاب الفروح (أبو بسام)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق