لم تترك إسرائيل أي قاعدة من قواعد القانون الدولي إلا انتهكتها بكل بساطة، وساندتها في ذلك الولايات المتحدة ومعظم الدول الغربية، وبينما تحالف الغرب الصليبي مع البربرية الإسرائيلية، وجدت إسرائيل سكوتاً مريباً معظم الأحيان إن لم يكن داعماً في المحيط العربي والإسلامي.
وقد لاحظنا خلال ملحمة غزة عدة أمور لافتة؛ أولها تقاعس الحكام العرب والمسلمين عن دعم القضية مقابل تحالف الغرب ومشاركة إسرائيل في حملة الإبادة. والثاني أن إسرائيل ولدت خارج الإطار القانوني الدولي، ولذلك لا تقيم له وزناً، والثالث أن دعم الغرب لها والمشاركة الأمريكية المباشرة منعا تدخل أطراف متعاطفة مع القضية. والرابع أن المقاومة تدرك أنها مشروعة وأنها تملك الوصاية، خاصة مع التواطؤ العربي ضد القضية وتغير سلوك مصر بعد التقارب مع أمريكا وإسرائيل منذ عام 1979 باتفاقية كامب ديفيد والسلام، حيث اتسعت المسافة الفاصلة بين مصالح الأمة وبين دعم الغرب لكرسي الحاكم.
والخامس أن الصراع بين الشعب الفلسطيني وبين إسرائيل الغاصبة للحق الفلسطيني هو صراع وجودي بين صاحب البيت وبين اللص، بعد أخذ الفلسطينيين لزمام المبادرة وسط عداء عربي انكشف بقرار الجامعة العربية بوصم المقاومة بالإرهاب، وهذا أكبر الأدلة على الفصل بين مصالح الوطن ومصالح النظام، كما كان الحال عندما أوهمنا السادات كذباً أن التقارب مع إسرائيل وأمريكا في مصلحة مصر ويحقن دماء الجنود المصريين، وهذا أكبر تلبيس حدث على الشعب؛ لأن اسرائيل هي المعتدية في جميع الحروب، ومصر يقتصر دورها على صد الهجوم، وبالفعل الافتئات الإسرائيلي على مصر تشعب وشمل جميع المجالات.
السادس أن إسرائيل مصرة على حملة الإبادة، وقرارها هو الأسمى، ولا تأثير لأي دولة عليها مادامت واشنطن تتفق معها، وخطتها هي القضاء على حماس أولاً ثم إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين بلا مقابل من الأسرى الفلسطينيين.
وقد قدمت خمس دول أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية (بينها جيبوتي وجزر القمر العضوتان في الجامعة العربية) دعوى ضد إسرائيل.
وإن قيل إن إسرائيل ليست طرفاً في ميثاق روما المنشئ للمحكمة كان الرد أن ذلك ليس إلا مزيداً من الانحياز الغربي لإسرائيل، خاصة عند المقارنة بين غزة وأوكرانيا، فقد تحركت المحكمة ضد روسيا، وهي أيضاً ليست طرفاً في ميثاق روما، ومع ذلك تم طلب التحقيق مع الرئيس بوتين من جانب 40 دولة، وأصدر المدعي العام للمحكمة أمراً باستدعاء بوتين للتحقيق معه، ولا يستطيع بوتين أن يمتنع علي أساس أنه رئيس دولة يتمتع بالحصانة، لأن المادة 27 من ميثاق روما لا تلتفت للحصانة، ومع ذلك فإن القبض على بوتين التزام قانوني على الدول الأطراف في المحكمة، تماماً كما كان الحال في قضية دارفور 2008، وكان الرئيس البشير مطارداً في مثل حالة بوتين.
ويترتب على ذلك أنه لا يجوز للمدعي العام أن يمتنع عن التحقيق فيما قدم له من معلومات عن الجرائم التي تختص بنظرها المحكمة، وأن يؤسس قراره السلبي على أن إسرائيل ليست طرفاً في نظام روما.
ويلاحظ أن إسرائيل والولايات المتحدة اشتركتا في مؤتمر روما في يوليو 1998، ووقعت الدولتان على الميثاق بالفعل ولكنهما انسحبتا من قائمة الموقعين.
كذلك تقدمت جنوب أفريقيا بطلب إلى محكمة العدل الدولية في 29/12/2023 واتهمت الدعوى إسرائيل بانتهاك التزاماتها بصفتها طرفاً في اتفاقية إبادة الجنس لعام 1948.
وأسست جنوب إفريقيا اختصاص المحكمة بنظر الدعوى على أساسين: الأول المادة 36/1 من النظام الأساسي للمحكمة، والثاني المادة 9 من اتفاقية الإبادة، علماً بأن المدعي والمدعى عليه طرفان في نظام المحكمة وفي اتفاقية الإبادة.
كما طلبت جنوب أفريقيا فرض إجراءات تحفظية أو مؤقتة على أساس المادة 41 من نظام المحكمة الأساسي، وعلى أساس المادتين 73 و74 من قواعد المحكمة، وهذه الإجراءات التحفظية إجراءات فورية لا تؤثر على المركز القانوني للطرفين، كما أنها تفرض للمحافظة على الحق المدعى لحين صدور الفصل في صلب القضية، وفي حالتنا يجب وقف إطلاق النار، وأما صلب القضية فهو إدانة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة بالمخالفة لالتزاماتها وفق اتفاقية الإبادة.
ولم تحدد جنوب أفريقيا الإجراءات المؤقتة المطلوبة، وإنما أوضحت أن هدف هذه الإجراءات هو حماية الشعب الفلسطيني ووقايته من مزيد من الضرر الذي لا يمكن إصلاحه، وهي حقوق للشعب الفلسطيني كفلتها اتفاقية الإبادة، ولتأكيد انصياع إسرائيل لالتزاماتها وفق الاتفاقية وعدم الإضرار من خلال أعمال الإبادة، والمطالبة بالمعاقبة على هذه الأفعال.
وأوضح الطلب أنه وفقاً للقاعدة 74 من قواعد المحكمة فإن للإجراءات التحفظية أولوية على غيرها.
ونظراً لأنه يستحيل وقف أعمال الإبادة مع استمرار العدوان فإن الدعوى تجنبت المطالبة بوقف إطلاق النار، والسبب بسيط وهو أنه طلب سياسي، وتختص المحكمة فقط بالفصل في المنازعات القانونية وحدها.
ومن المفارقات أن جنوب أفريقيا التي حل النظام الوطني الديمقراطي الأفريقي فيها محل النظام العنصري المدان دولياً الذي كان يساند إسرائيل في عدوانها على العرب. ردت إسرائيل خارج السياق في تصريحات سياسية أن جنوب أفريقيا سبق أن ارتكبت نفس الجرائم، وفات إسرائيل أن الذي ارتكب جرائمه هو النظام العنصري الأبيض الذي كان متحالفاً معها.
وتجدر الإشارة إلى أن محكمة العدل الدولية هي الذراع القضائية الأساسية للأمم المتحدة، وحلت محل المحكمة الدائمة للعدل الدولي التي نشأت مع عصبة الأمم.
وأخيراً عرض على هذه المحكمة -من 22 مايو 1947 وحتى 13/11/2023- 191 قضية، وتعتبر هذه القضية رقم 192 بجانب الآراء الاستشارية.
وللمحكمة وظيفتان: وظيفة قضائية، وهي الفصل في المنازعات القانونية بين الدول الأعضاء، ووظيفة إفتائية بإصدار آراء استشارية، والآراء والإجراءات التحفظية ملزمة قانوناً وفق قواعد المحكمة.
وكانت المرة الأولى التي عرض فيها موضوع الصراع العربي الإسرائيلي عام 2003 عندما أدانت الجمعية العامة بناء إسرائيل الجدار العازل، وصدر الرأي الاستشاري في يوليو عام 1974.
وبالطبع فإن الأمين العام المكلف بالتنفيذ لم يحرك ساكناً، وفرض الرأي الاستشاري هدم ما بنته إسرائيل من الجدار، ووقف الاستمرار في البناء، وتعويض من تضرر من البناء من الفلسطينيين. ويذكر أن الجامعة العربية دعمت القضية بشكل لافت، بينما لقيت إسرائيل دعماً من الغرب عموماً.
وأمام المحكمة الآن طلب رأي استشاري قدمته الجمعية العامة في العام الماضي حول أضرار استمرار الاحتلال الإسرائيلي.
صحيح أن الجامعة العربية وصفت المقاومة ضد إسرائيل بالإرهاب، وأن فرضية عداء الحكام العرب للمقاومة حقيقة، ولكن قضية إبادة الجنس الفلسطيني تتجاوز الموقف الرسمي العدائي من المقاومة.
ورغم ذلك نأمل أن يساند العرب القضية مع جنوب أفريقيا.
المهم أن المحكمة سوف تطلب من جنوب أفريقيا وإسرائيل مذكرات ومذكرات مضادة، ونتوقع أن تنضم دول غربية إلى إسرائيل.
فلماذا قدمت جنوب أفريقيا وحدها دعوى ضد إسرائيل؟
نعتقد أن هذا الموقف يمكن تفسيره بأسباب عديدة: الأول أن جنوب أفريقيا الحالية عانت من الأبارتهايد علي يد الأقلية البيضاء، ويعلم الأفارقة فيها مغزى أعمال الإبادة. والسبب الثاني هو طموح جنوب أفريقيا تجاوز الإطار الأفريقي إلى الإطار الدولي، وتطمح إلى تمثيل أفريقيا في أي نظام دولي جديد. ولكن جنوب أفريقيا لا تنسى أن مصر الناصرية كانت تساند الحزب الوطني الأفريقي وكل حركات التحرر الوطني، ووقتها كانت إسرائيل تحاول التسلل إلى أفريقيا.
وأخيراً رغم اهتزاز الثقة بسبب سلوك إسرائيل في القانون والقضاء الدوليين، إلا أنه يجب المضي في إدانة إسرائيل والتمسك بالقانون الدولي.
مما يذكر أن المقارنة بين مصير إسرائيل وبين جنوب أفريقيا العنصرية كانت متواترة، لكن عوامل التفاعل في المشهدين مختلفة، خاصة أن واشنطن كانت القاسم المشترك في حالة إسرائيل وجنوب أفريقيا العنصرية، كما أن التحالف بينهما كان دائماً مما أطال عمر الثانية.