*لأَجلِك لا لأَجل غزَّة!*
بقلم : أدهم شرقاوي
بالإضافةِ لكونه كاتباً رائعاً، كان "إدواردو غليانو" يحفظُ آلافَ الحكاياتِ، وكان يجوبُ العالمَ قاصًّا حكاياته التي كانت حقيقيّة وبنت النَّاس! وفي مدينة "نابولي" احتشدَ الجمهورُ الإيطاليُّ ليسمعَ ما الذي سيرويه هذا القادم من "الأورغواي"!
حدَّثهم يومها عن رجلٍ أمريكيٍّ كان أثناءَ حربِ فيتنام يقفُ مساءَ كلِّ يومٍ وحده أمام البيت الأبيض حاملاً شمعةً مُضاءة، ويدعو لوقف العدوان الأمريكيِّ على فيتنام، منذ اليوم الأول للحرب وحتى نهايتها لم يتغيَّبْ أبداً !
وفي إحدى الليالي جاء صحفيّ وقال له: سيدي، هل تعتقد أنَّ وقوفك هنا بشمعتك واحتجاجك كلّ ليلة يمكنُ أن يُغيِّرَ شيئاً ؟
فقالَ له: أنا لا أقفُ هنا كلَّ ليلةٍ لأُغيّرَ شيئاً، أنا أقفُ هنا حتى لا يُغيّروني هُم ! لن أسمحَ لاندفاعهم المجنون أن يقتلَ إنسانيّتي، سأبقى أعرفُ الحقيقةَ، وأقولُ الحقيقةَ، سأقومُ بدوري الصّغير هذا كلَّ يومٍ محاولاً البقاء إنساناً !
إنَّ وقوفك مع غزَّة اليوم، لن يحميها من الصواريخ التي تنزلُ عليها، ولكنه سيحميك أنتَ غداً من أن تقفَ أمام المرآةِ وتحتقرَ نفسك !
حين تقفُ مع غزَّة فأنتَ تقفُ مع نفسكَ !
وحين تُدافعُ عن غزَّة فأنتَ تُدافعُ عن إنسانيَّتك وتُقاتلُ كي لا تُصبحَ مسخاً ليس لديه مبادىء، ولا تُحرِّكه مشاهد القتل والظلم !
وحين يعتصرُ قلبُك ألماً على مشاهدِ القتلِ والتَّدميرِ والنُّزوح، فأنتَ لن توقفَ شيئاً من هذه المعاناة، ولكنَّ ألمكَ هذا له ثمنُ الإيمان، والانتساب إلى هذه الأُمّة، المشاعرُ في ديننا عبادة، ونحن كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالحّمى والسّهَر ! فإيّاك أن تعتاد المشهدَ ولو تكرَّرَ كلَّ يومٍ ألف مرَّةٍ فإنَّ الاعتياد جريمة !
وإنَّ الذي يُراق دمٌ وليس ماءً، وإنَّ الذي يُقطعُ أطرافٌ لا أغصاناً، فمَن أَلِفَ المشهدَ فقد خان، ومن اعتادَ المنظرَ فقد خذل !
اِبكِ شهداءهم كلَّ يومٍ، فهذا يُخبرك أنَّكَ لم تمتْ بعد، الأموات ليسوا وحدهم الذين في القبور يا صاحبي، الكثير من الأحياء ماتوا من زمن !
اُكتُبْ عنهم، أو على الأقل لا ترقصْ على جراحهم، تربَّيْنا أنّه من العيب أن يُقام العرس إذا كان في بيت الجيران مأتم !
قاطِعِ البضائعَ التي تدعم قاتلهم، لا تكُنْ شريكاً في الدّم، لا تنهش لحمهم، هم بالكاد يجدون قوتهم ولم يتعبوا، فلا تتعب أنتَ بمقاطعة منتجٍ له ألف بديل !
أَغِثْهُمْ، المالُ سلوى في الأزمات، وبه تبرأ إلى اللهِ من العجز والفُرجة، وكأنَّك به تقول لهم: إن لم أقاسمكم معاناتكم، فها أنا أُساهم في تخفيفها ! وإن كان بالإمكان دعم مجاهديهم فقد بلغتَ المجدَ، وحاربتَ وأنتَ في بيتك، هذه المقاومة يجب أن تبقى واقفة على قدميها، هذه المقاومة شرفُنا وعزُّنا ما نفعُ المال إن غدا الإنسان بلا شرفٍ؟!
اُدْعُ لهم، فلربما سدَّدَ اللهُ الرميَ بدعوةٍ، وصبَّر مكلوماً بدعوةٍ، وواسى فاقداً بدعوةٍ.. الدُّعاء ليس آخرَ الحلول وأضعفَها، الدُّعاء أولها وأقواها، وبينهما : *في الحديد بأسٌ شديد* !
*أدهم شرقاوي / صحيفة الوطن القطرية*