الاثنين، 21 أغسطس 2023

يابنتي ( تاليف على الطنطاوي )

 يا بنتي .. نصائح للبنات

يا بنتي

مقالة تاليف الداعية على الطنطاوي  نُشرت سنة 1953

يا بنتي، أنا رجل يمشي إلى الخمسين (2) قد فارق الشباب وودع أحلامه وأوهامه ، ثم إنيِ سحت في البلدان ولقيت الناس وخبرت الدنيا، فاسمعي مني كلمة صحيحة صريحة من سني وتجاربي لم تسمعيها من غيري.

لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقوم الأخلاق ومحو الفساد وقهر الشهوات، حتى كلت منا الأقلام وملت الألسنة، وما صنعنا شيئاً ولا أزلنا منكراً، بل إن المنكرات لتزداد والفساد ينتشر، والسفور والحسور والتكشف تقوى شرته وتتسع رقعته، ويمتد من بلد إلى بلد، حتى لم يبق  بلد إسلامي -فيما أحسب- في َنْجَوة منه. حتى الشام التي كانت فيها الملاءة السابغة، وفيها الغلو في حفظ الأعراض وستر العورات، قد خرج نساؤها سافرات حاسرات كاشفات السواعد والنحور!

ما نجحنا وما أظن أننا سننجح. أتدرين  لماذا؟ لأننا لم نْهَتِد -إلى اليوم- إلى باب  الإصلاح ولم نعرف طريقه.

 إن باب الإصلاح أمامك أنت يا بنتي ومفتاحه بيدك، فإذا آمنت بوجوده وعملت على دخولهَ صَلَحت الحال. صحيح أن الرجل هو الذي يخطو الخطوة الأولى في  طريق الإثم، لا تخطوها المرأة أبداً، ولكن لولا رضاك ما أقدم ولولا لينك ما اشتد ، أنت فتحت له وهو الذي دخل، قلت للص تفضل. فلما سرقك اللص صرخت أغيثوني يا ناس،ُ سُرقت..

ولو عرفت أن الرجال جميعاً ذئاب وأنت النعجة لفررت منهم فرار النعجة من  الذئب، وأنهم جميعاً لصوص لاحترست منهم احتراس الشحيح من اللص. وإذا كان الذئب لا يريد من النعجة إلا لحمها، فالذي  يريده منك الرجل أعز عليك من اللحم ، على النعجة، وشر عليك من الموت عليها.

يريد منك أعز شيء عليك: عفافك الذي به تْشُرفين، وبه تفخرين، وبه تعيشين. وحياة  البنت التي فجعها الرجل بعفافها أشد عليها بمئة مرة من الموت على النعجة التي فجعها الذئب بلحمها، إي والله.

وما رأى شاب فتاة إلا جردها بخياله من ثيابها ثم تصورها بلا ثياب. إي والله، أحلف لك مرة ثانية. ولا تصدقي ما يقوله لك بعض الرجال من أنهم لا يرون في البنت إلا خلقها وأدبها، وأنهم يكلمونها كلام الرفيق ويودونها ويود الصديق. كذب والله .

ولو سمعت أحاديث الشباب في خلواتهم لسمعت مهولا مرعباً. وما يبسم لك الشاب بسمة، ولا يلين لك كلمة، ولا يقدم لك خدمة، إلا وهي عنده تمهيد لما يريد، أو هي -على الأقل- إيهام لنفسه أنها تمهيد!

وماذا بعد؟ ماذا يا بنت؟ فكري :

تشتركان في لذة ساعة، ثم ينسى هو، وتظلين أنت أبداً تتجرعين غصصها. يمضي ( خفيفاً ) يفتش عن مغفلة أخرى يسرق منها عرضها، وينوء بك أنت ( ثِقُل ) الحمل في  بطنك، والهم في نفسك، والوصمة على جبينك. يغفر له هذا المجتمع الظالم ويقول:

شابَ ضّل ثم تاب، وتبقين أنت في حمأة الخزي والعار طول الحياة، لا يغفر لك المجتمع أبداً.

ولو أنك -إذ لقيتِه- نصبت له صدرك وزويت عنه بصرك وأريتِه الحزم والإعراض، فإذا لم يصرفه عنك هذا الصد، وإذا بلغت به الوقاحة أن ينال منك بلسان أو يد، نزعت حذاءك من رجلك ونزلت به على رأسه... لو أنك فعلت هذا لرأيتِ من كل َمن يمر في الطريق عوناً لك عليه، ولَما جرؤ بعدها فاجر على ذات سوار، ولجاءك  -إن كان صالحاً- تائباً مستغفراً يسأل الصلة بالحلال؛ جاءك يطلب الزواج.

والبنت -مهما بلغت من المنزلة والغنى والشهرة والجاه- لا تجد أملها الأكبر وسعادتها إلا في الزواج، في أن تكون زوجاً صالحة وأماً موقرة وربة بيت. سواء في ذلك الملكات والأميرات وممثلات هوليود ذوات الشهرة والبريق الذي يخدع كثيرات من النساء.

 وأنا أعرف أديبتين كبيرتين في مصر والشام، أديبتين حقاً، ُجمع لهما المال والمجد الأدبي، ولكنهما فقدتا الزوج ففقدتا العقل وصارتا مجنونتين، ولا تحرجيني بسؤالي عن الأسماء فإنها معروفة.

الزواج أقصى أماني المرأة، ولو صارت عضوة البرلمان وصاحبة السلطان. والفاسقة المستهترة لا يتزوجها أحد، حتى الذي يغوي البنت الشريفة بوعد الزواج، إن هي غوت وسقطت تركها وذهب -إذا أراد الزواج- فتزوج غيرها من الشريفات، لأنه لا يرضى أن تكون ربة بيته وأم ابنته امرأة ساقطة!

والرجل وإن كان فاسقاً داعراً، إذا لم يجد في سوق اللذات بنتاً ترضى أن تريق كرامتها على قدميه وأن تكون لعبة بين يديه، إذا لم يجد البنت الفاسقة أو البنت المغفلة التي تشاركه في الزواج على دين إبليس وشريعة القطط في شباط، طلب من تكون زوجته على سنة الإسلام. فكساد سوق الزواج منكن يا بنات، لو لم يكن منكن الفاسقات ما كسدت سوق الزواج ولا راجت سوق الفجور، فلماذا لا تعملن لماذا لا تعمل شريفات النساء على محاربة هذا البلاء؟ أنتن أولى به وأقدر عليه منا لأنكن أعرف بلسان المرأة وطرق إفهامها، ولأنه لا يذهب ضحية هذا الفساد إلا أنتن: البنات العفيفات الشريفات، البنات الصينات الدينات.

في كل بيت من بيوت الشام بنات في سن الزواج لا يجدن زوجاً، لأن الشباب وجدوا من الخليلات ما يغني عن الحليلات. ولعل مثل هذا في غير الشام أيضاً، فألْفَن جماعات منكن من الأديبات والمتعلمات ومدرسات المدرسة وطالبات الجامعة تعيد أخواتكن الضالا ت إلى الجادة، خوفنهن  الله، فإن

المرض، فإنُكّن لا يخفنه فحذرنهن المرض ، فإن كن لا يْحَذْرَنه فخاطب بلسان الواقع، قلن لهن :

إنكن صبايا جميلات، فلذلك يُقبل الشباب عليكن  ويحومون حولكن، ولكن هل يدوم عليكن الصبا والجمال؟ وهل دام في الدنيا شيء حتى يدوم على الصبية صباها وعلى الجميلة جمالُها؟ فكيف بكن إذا صرتن عجائز محنيات الظهور مجعدات الوجوه؟

من يهتم يومئذ بكن ومن يسأل عنكن؟ أتعرفن من يهتم بالعجوز ويكرمها ويوقرها؟ أولادها وبناتها وحَفدتها وحفيداتها. هنالك تكون العجوز ملكة في رعيتها ومتوجة على عرشها، على حين تكون <الأخرى>... أنتن أعرف بما تكون عليه!(3)   فهل تساوي هذه اللذة تلك الآلام؟ وهل تُشترى بهذه البداية تلك النهاية؟

وأمثال هذا الكلام. لا تحتجن إلى من يدلكن عليه، ولا تعدمن وسيلة إلى هداية أخواتكن المسكينات الضالات، فإن لم تستطعن ذلك معهن فاعملن على وقاية السالمات من مرضهن، والناشئات الغافلات من أن يسلكن طريقهن.

*   *   *

وأنا لا أطلب منكن أنَ تُعْدَن بالمرأة المسلمة اليوم بوثبة واحدة إلى مثل ما كانت عليه المرأة المسلمة حقاً، لا، وإني لأعلم أن الطفرة مستحيلة في العادة ( 4)، ولكن أن ترجعن إلى الخير خطوة خطوة كما أقبلتن على الشر خطوة خطوة. إنكن قصْرُتّن الثياب ورفعتن الحجاب شعرة شعرة، وصبرتنّ الدهر الأطول تعملن لهذا الانتقال، والرجل الفاضل لا يشعر به، والمجلات الداعرة تحث عليه والفّساق يفرحون به، حتى وصلنا إلى حال لا يرضى بها الإسلام ولا ترضى بها النصرانية، ولم يعملها المجوس الذين نقرأ أخبارهم في التاريخ، إلى حال تأباها الحيوانات.

إن الديكين إذا اجتمعا على الدجاجة  اقتتلا غيرةً عليها وذوداً عنها، وعلى الشواطئ في الإسكندرية وبيروت رجال مسلمون لا يغارون على نسائهم المسلمات أن يراه الأجنبي. لا أن يرى وجهوهن ولا أكفهن ولا نحورهن، بل كل شيء فيهن! كل شيء إلا الشيء الذي يقبح مرآه ويجمل ستره،وهو حلقتا العورتين وحلمتا الثديين! وفي النوادي والسهرات <التقدمية> الراقية رجال مسلمون يقدمون نساءهم  المسلمات للأجنبي ليراقصهن، يضمهن حتى يلامس الصدر الصدر والبطن البطن والفم الخد ، والذراع ملتوية على الجسد، ولا ينكر ذلك أحد!

وفي الجامعات المسلمة شباب مسلمون يجالسون بنات مسلمات متكشفات باديات العورات، ولا ينكر ذلك الآباء المسلمون ولا الأمهات المسلمات! وأمثال هذا ، وأمثال هذا كثير، لاُيدفَع في يوم واحد ولا بوثبة عاجلة، بل بأن نعود إلى الحق من الطريق الذي وصلنا منه إلى الباطل، ولو وجدناه الآن طويلا..

لا يسلك الطريق الطويل الذي لا يجد غيره لا يصل أبداً. وأن نبدأ بمحاربة الاختلاط. والاختلاط غير السفور، وأنا لا أمنع من كشف الوجه إن كان لا يتحقق بكشفه الضرر على الفتاة والعدوان على عفافها، وأراه -عند أمن الفتنة- خيراً من هذا الذي نسميه في بلاد الشام حجاباً، وما هو إلا ستر للمعايب وتجسيم للجمال وإغراء للناظر.

السفور إن اقتصر على الوجه -كما خلق الله الوجه - نقبل به، وإن كنا نرى الستر أحسن وأولى، أما الاختلاط فشيء آخر. وليس يلزم من السفور أن تختلط الفتاة السافرة بغير محارمها، وأن تستقبل الزوجة صديق زوجها في بيتها، أو أن تحيية إن قابلته في الترام أو لقيته في الشارع، وأن تصافح البنت رفيقها في الجامعة، أو أن تصل الحديث بينها وبينه، أو أن تمشي معه في الطريق وتستعد معه للامتحان، وتنسى أن الله جعلها أنثى وجعله ذكراً وركب في كل الميل إلى الآخر، فلا تستطيع هي ولا هو ولا أهل الأرض جميعاً أن يغيروا خلقة الله  وأن <يساووا> بين الجنسين(5)، أو أن يمحوا من نفوسهم هذا الميل.

وإن دعاة المساواة والاختلاط باسم المدنية قوم كذّ ابون من جهتين: كذابون لأنهم ما أرادوا بذلك كله إلا متاع جوارحهم وإرضاء ميولهم، وإعطاء نفوسهم حظها من لذة النظر وما يأملون من لذائذ أُخر، ولكنهم لم يجدوا الجرأة على التصريح به فلبسوه بهذا الذي يهرفون به، بهذه الألفاظ الطنانة التي ليس وراءها شيء: التقدمية، والتمدن، والحياة الجامعية... وهذا الكلام الفارغ-على دِوّيه- من المعنى، فكأنه الطبل!

وكذابون لأن أوربا التي يأتمون بها ويهتدون بهديها، ولا يعرفون الحق إلا بدمغتها عليه، فليس الحق عندهم الذي يقابل الباطل ولكن الحق ما جاء من هناك:

من باريس ولندن وبرلين ونيويورك، ولو كان الرقص والخلاعة والاختلاط في الجامعة والتكشف في الملعب والعري على الساحل(6)، والباطل ما جاء من هنا: من الأزهر والأموي وهاتيك المدارس الشرقية والمساجد الإسلامية، ولو كان الشرف والهدى والعفاف والطهارة، طهارة القلب وطهارة الجسد... إن في أوربا وفي أميركا -كما قرأنا وحدثَناَ من ذهب إليهما-أُسراً كثيرات لا ترضى بهذا الاختلاط ولاتُسيغه،

وإن في باريس... في باريس يا ناس، آباء وأمهات لا يسمحون لبناتهم الكبيرات أن َيِسْرَن مع شاب أو يصحبنه إلى السينما، بل هم لا يدخلونهن إلى روايات عرفوها وأيقنوا بسلامتها من الفحش والفجور، اللذين لا يخلو منهما مع الأسف واحد من هذه ( التهريجات) والصبيانيات السخيفة التي تسميها شركات مصر الهزيلة الرقيعة الجاهلة بالفن السينمائي مثل جهلها بالدين... تسميها أفلاماً!

يقولون: إن الاختلاط يكسرِ شرة الشهوة ويهذب الخلق وينزع من النفس هذا الجنون الجنسي، وأنا أحيل في الجواب على من جرب الاختلاط في المدارس، روسيا التي لا تعود إلى دين ولا تسمع رأي شيخ ولا قسيس. ألم ترجع عن هذه التجربة لما رأت فسادها؟

وأميركا، ألم تقرؤوا أن من جملة  مشكلات أميركا مشكلة ازدياد نسبة <الحاملات> من الطالبات؟(7) فمن يسره أن يكون في جامعات مصر والشام وسائر بلاد الإسلام مثل هذه المشكلة؟

*   *   *

أنا لا أخاطب الشباب ولا أطمع في أن يسمعوا لي، وأنا أعلم أنهم قد يردون علي ويسفهون رأيي لأني أحرمهم من لذائذ ما صدقوا أنهم قد وصلوا إليها حقاً، ولكن أخاطبكن أنتن، أنتن يا بناتي المؤمنات الدينات، يا بناتي الشريفات العفيفات:

إنه لا يكون الضحية إلا أنتن فلا تقدمن  نفوسكن ضحايا على مذبح إبليس، لاتسمعن كلام هؤلاء الذين يزينون لكن حياة الاختلاط باسم الحرية والمدنية والتقدمية  والروح الجامعية، فإن أكثر هؤلاء الملاعين لا زوجة له ولا ولد، ولا يهمه منكن جميعاً إلا اللذة العارضة! أما أنا فإني أبو أربع بنات(8) ، فأنا حين أدافع عنكن أدافع عن بناتي، وأنا أريد لكّن من الخير ما أريده لهّن.

إنه لا شيء مما يهرف به هؤلاء يُرّد على البنتِ عْرَضها الذاهب، ولا يرجع لها شرفها المثلوم ولا يعيد لها كرامتها الضائعة. وإذا سقطت البنت لم تجد واحداً يأخذ بيدها أو يرفعها من سقطتها، إنما تجدهم جميعاً يتزاحمون على جمالها ما بقي فيها جمال، فإذا ولى ولوا عنها كما تولي الكلاب عن  الجيفة التي لم يبق فيهاِ مْزعة لحم!

هذه نصيحتي إليك يا بنتي، وهذا هو  الحق فلا تسمعي غيره، واعلمي أن بيدك أنت لا بأيدينا معشر الرجال، بيدك مفتاح باب الإصلاح، فإذا شئت أصلحت نفسك وأصلحت بصلاحك الأمة  كلها.

*   *   *

والسلام عليكم ورحمة الله.

علي الطنطاوي

السبت، 19 أغسطس 2023

خلق الكون كتب أحمد إبراهيم الشريف

 

خلق الكون

 كتب أحمد إبراهيم الشريف

نعرف جميعا أن كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير واحدا من أخطر الكتب التراثية فى التاريخ الإسلامى، ويتم الاعتماد عليه بشكل كبير فى تشكيل الخطاب الدينى المعاصر، لذا فإننا سوف نقرأ معا بعض ما ورد فى هذا الكتاب، واليوم نتوقف عند فصل "خلق السموات والأرض وما بينهما".



يقول كتاب البداية والنهاية:

قال الله تعالى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ" [الأنعام: 1  .

وقال تعالى: "خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ" [هود: 7] في غير ما آية من القرآن.

وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه الستة الأيام إلى قولين:

فالجمهور: على أنها كأيامنا هذه.

وعن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وكعب الأحبار: إن كل يوم منها كألف سنة مما تعدون. رواهن ابن جرير، وابن أبي حاتم.

واختار هذا القول الإمام أحمد ابن حنبل في كتابه الذي رد فيه على الجهمية، وابن جرير وطائفة من المتأخرين، والله أعلم، وسيأتي ما يدل على هذا القول.

وروى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم، وغيره أن أسماء الأيام الستة (أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت).

 

وحكى ابن جرير: في أول الأيام ثلاثة أقوال، فروى عن محمد بن إسحاق أنه قال:

يقول أهل التوراة: ابتدأ الله الخلق يوم الأحد.

ويقول أهل الإنجيل: ابتدأ الله الخلق يوم الاثنين.

ونقول نحن المسلمون فيما انتهى إلينا عن رسول الله ﷺ: ابتدأ الله الخلق يوم السبت.

وهذا القول الذي حكاه ابن إسحاق عن المسلمين مال إليه طائفة من الفقهاء من الشافعية، وغيرهم.

وسيأتي فيه حديث أبي هريرة " خلق الله التربة يوم السبت" والقول بأنه الأحد رواه ابن جرير، عن السدي، عن أبي مالك. وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن جماعة من الصحابة.

ورواه أيضًا عن عبد الله بن سلام، واختاره ابن جرير وهو نص التوراة.

ومال إليه طائفة آخرون من الفقهاء، وهو أشبه بلفظ الأحد ولهذا، كمل الخلق في ستة أيام فكان آخرهن الجمعة فاتخذه المسلمون عيدهم في الأسبوع، وهو اليوم الذي أضل الله عنه أهل الكتاب قبلنا كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" البقرة: 29

 

وقال تعالى "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [فصلت: 9 - 12].

فهذا يدل على أن الأرض خلقت قبل السماء لأنها كالأساس للبناء، كما قال تعالى: "اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [غافر: 64] .

قال تعالى: "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا" إلى أن قال: "وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا" [النبأ: 6- 13] .

وقال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" [الأنبياء: 30] أي: فصلنًا ما بين السماء والأرض حتى هبت الرياح، ونزلت الأمطار وجرت العيون والأنهار، وانتعش الحيوان.

ثم قال: "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ" [الأنبياء: 32] .

أي عما خلق فيها من الكواكب الثوابت، والسيارات والنجوم الزاهرات والأجرام النيرات، وما في ذلك من الدلالات على حكمة خالق الأرض والسموات كما قال تعالى: "وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ" [يوسف: 105 - 106] .

فأما قوله تعالى: "ءأنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ" [النازعات: 27-33] .

فقد تمسك بعض الناس بهذه الآية على تقدم خلق السماء على خلق الأرض، فخالفوا صريح الآيتين المتقدمتين، ولم يفهموا هذه الآية الكريمة فإن مقتضى هذه الآية أن دحى الأرض وإخراج الماء والمرعى منها بالفعل بعد خلق السماء.

وقد كان ذلك مقدرًا فيها بالقوة كما قال تعالى: "وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا" [فصلت: 10] .

أي هيأ أماكن الزرع، ومواضع العيون والأنهار، ثم لما أكمل خلق صورة العالم السفلي والعلوي، دحى الأرض فأخرج منها ما كان مودعًا فيها فخرجت العيون وجرت الأنهار، ونبت الزرع والثمار، ولهذا فُسر الدحى بإخراج الماء والمرعى منها، وإرساء الجبال فقال: "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا" [النازعات:30-31] .

وقوله: "وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا" [النازعات: 32] .

أي قررها في أماكنها التي وضعها فيها، وثبتها، وأكدها، وأطدها، وقوله: "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [الذرايات: 47- 49] .

بأيدٍ: أي بقوة.

وأنا لموسعون: وذلك أن كل ما علا اتسع فكل سماء أعلى من التي تحتها فهي أوسع منها.

ولهذا كان الكرسي أعلى من السموات. وهو أوسع منهن كلهن. والعرش أعظم من ذلك كله بكثير.

وقوله بعد هذا: "وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا" أي: بسطناها وجعلناها مهدًا أي قارة ساكنة غير مضطربة، ولا مائدة بكم. ولهذا قال: "فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ" والواو لا تقتضي الترتيب في الوقوع، وإنما يقتضي الإخبار المطلق في اللغة، والله أعلم.

وقال البخاري: حدثنا عمر بن جعفر بن غياث، حدثنا أبي حدثنا الأعمش، حدثنا جامع بن شداد عن صفوان بن محرز، أنه حدثه عن عمران بن حصين قال:

دخلت على النبي ﷺ وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم، فقال: " اقبلوا البشرى يا بني تميم".

قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين.

ثم دخل عليه ناس من اليمن فقال: "أقبلوا البشرى يا أهل اليمن إن لم يقبلها بنو تميم".

قالوا: قد قبلنا يا رسول الله.

قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر. قال: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض" فنادى مناد ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت فإذا هي تقطع دونها السراب، فوالله لوددت أني كنت تركتها. هكذا رواه هاهنا.

وقد رواه في كتاب المغازي، وكتاب التوحيد، وفي بعض ألفاظه: " ثم خلق السموات والأرض" وهو لفظ النسائي أيضًا.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا حجاج، حدثني ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله ﷺ بيدي فقال:

" خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاث، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة، آخر خلق خلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل".

وهكذا رواه مسلم عن سريج بن يونس، وهارون بن عبد الله، والنسائي عن هارون، ويوسف بن سعيد ثلاثتهم عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور عن ابن جريج، به مثله سواء.

وقد رواه النسائي في التفسير: عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، عن محمد بن الصباح، عن أبي عبيدة الحداد، عن الأخضر بن عجلان، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ أخذ بيدي فقال:

" يا أبا هريرة إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت".

وذكر تمامه بنحوه فقد اختلف فيه على ابن جريج.

وقد تكلم في هذا الحديث على ابن المديني، والبخاري، والبيهقي، وغيرهم من الحفاظ.

قال البخاري في (التاريخ): وقال بعضهم عن كعب، وهو أصح يعني أن هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة، وتلقاه من كعب الأحبار، فإنهما كان يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يحدثه عن صحفه، وهذا يحدثه بما يصدقه عن النبي ﷺ، فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب، عن صحفه، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعًا إلى النبي ﷺ.

وأكد رفعه بقوله: " أخذ رسول الله ﷺ بيدي".

ثم في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك: أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الأرض، وما فيها في سبعة أيام.

وهذا خلاف القرآن لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السموات في يومين من دخان، وهو بخار الماء الذي ارتفع حين اضطرب الماء العظيم الذي خلق من ربذة الأرض بالقدرة العظيمة البالغة.

كما قال إسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير، في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله ﷺ: "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ" [البقرة: 29] .

قال: إن الله كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا، فارتفع فوق الماء، فسما عليه فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها، فجعل سبع أرضين في يومين الأحد، والاثنين، وخلق الأرض على حوت وهو النون الذي قال الله تعالى: "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" [القلم: 1] .

 

والحوت في الماء، والماء على صفات، والصفات على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء، ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت.

وخلق الله يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من المنافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر، والماء، والمدائن، والعمران، والخراب، وفتق السماء، وكانت رتقًا فجعلها سبع سموات في يومين الخميس والجمعة.

وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، وأوحى في كل سماء أمرها.

ثم قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة، والبحار، وجبال البرد، وما لا يعلمه غيره. ثم زين السماء بالكواكب فجعلها زينة، وحفظًا يحفظ من الشياطين، فلما فرغ من خلق ما أحب، استوى على العرش.

هذا الإسناد يذكر به السدي أشياء كثيرة فيها غرابة، وكان كثير منها متلقي من الإسرائيليات، فإن كعب الأحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأشياء من علوم أهل الكتاب، فيستمع له عمر تأليفًا له، وتعجبًا مما عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر، فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا.

ولما جاء من الإذن في التحديث عن بني إسرائيل، لكن كثيرًا ما يقع مما يرويه غلط كبير، وخطأ كثير.

وقد روى البخاري في (صحيحه): عن معاوية أنه كان يقول في كعب الأحبار: وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب، أي: فيما ينقله لا أنه يتعمد ذلك، والله أعلم.

ونحن نورد ما نورده من الذي يسوقه كثير من كبار الأئمة المتقدمين عنهم. ثم نتبع ذلك من الأحاديث بما يشهد له بالصحة، أو يكذبه، ويبقى الباقي مما لا يصدق، ولا يكذب، وبه المستعان وعليه التكلان.

قال البخاري: حدثنا قتيبة حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي زناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:

" لما قضى الله الخلق كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي".

وكذا رواه مسلم والنسائي، عن قتيبة به. ثم قال البخارى.